الحاخام الأكبر للجالية اليهودية في الخليج إيلي عبادي يتنقل بلباسه الديني في دبي دون خوف

الأخبار المحلية

فتحت اتفاقات أبراهام أبوابا مغلقة أمام الجالية اليهودية في الخليج، لكن هجوم 7 أكتوبر والحرب على غزة لتكش هشاشة هذا الانفتاح.

بين لحظتي الأمل والتوجس يتحرك الحاخام الأكبر للجالية اليهودية في الخليج، الطبيب إيلي عبادي، دون أن يتخلى عن إيمانه الراسخ في إمكانية التعايش بين أبناء إبراهيم الخليل، هو القادم من طفولة محفوفة بالحذر في لبنان إلى حياة، في دبي، حيث يسير علنا من دون خوف بلباسه الديني.

من بيروت إلى المنفى

وُلد عبادي في بيروت لعائلة يهودية من أصول سورية. يقول: “كانت الحياة تبدو طبيعية على السطح، لكن الحذر كان قاعدة يومية”.

بعد استقلال سوريا عام 1946 وتأسيس إسرائيل بعد ذلك بعامين، اشتد العداء لليهود، فاضطرت والدته وأخواته إلى الفرار إلى لبنان، بينما بقي والده في دمشق بانتظار أن تهدأ العاصفة. “لكن الخطر ازداد، فهرب بمساعدة صديق يعمل في القطار، خبأه في مقطورة شحن، وقبل الحدود اللبنانية قال له: اقفز الآن. قفز وسار ساعات حتى وصل إلى والدتي في بلدة عاليه في جبل لبنان”.

في الخمسينيات، بلغ عدد اليهود في لبنان بين عشرين وخمسة وعشرين ألفا. “كانت جالية نشطة لها مدارسها وكنسها، لكنها عاشت بحذر متزايد مع تصاعد التوترات الإقليمية”.

يصف عبادي تلك الفترة بأنها زمن “الضغط الصامت”: “لم نكن نرتدي الكيباه في الشوارع. كان والدي يقول دائما: كلمة واحدة قد تكفي لإشعال الغضب”.
ومع دخول الفصائل الفلسطينية لبنان وتزايد النفوذ السوري، تبدّد الإحساس بالأمان. “عندها أدركنا أن الأمن الذي عرفناه بدأ يتلاشى، فبدأ أفراد الجالية بالرحيل مطلع السبعينيات”.

رسالة إلى المكسيك

عام 1965، سافر أخو إيلي عبادي إلى المكسيك، وبعد سنوات كتبت له والدته: “أنقذنا، يجب أن تخرجنا من هنا”.

يروي: “لم يكن هناك بلد يقبل استقبالنا كلاجئين. لكن أخي تواصل مع الحكومة المكسيكية، وأرسلت لنا أوراق السفر. وغادرنا لبنان عام 1971”.

كان عبادي في العاشرة، يقول: “كنت أتكلم العربية والفرنسية والعبرية فقط. في المدرسة اليهودية بالمكسيك كنت الغريب الجديد. استخدموا كلمات غير لطيفة، لكن مع الوقت تعلمت الإسبانية واندمجت بينهم”.

كانت الجالية اليهودية هناك بمعظمها من أصول لبنانية وسورية. “اندمجنا مع الجالية الشرقية لأننا نتشارك اللغة والعادات وحتى المطبخ”. لكن الفوارق الثقافية بين اليهود الشرقيين والأشكناز الأوروبيين بدت واضحة. “الاختلاف يبدأ من النطق! الأشكناز لا يستطيعون نطق حرف الحاء، وحتى في الأكل، نحن نأكل الأرز في عيد الفصح، وهم يمتنعون عنه”.

يضيف بابتسامة: “اليهود ليسوا جماعة واحدة، بل شعوب بثقافات ولهجات متعددة”.

ورغم القواسم الدينية، لم يخلُ المجتمع من التمييز الطبقي. “بعض الأشكناز الأوروبيين كانوا ينظرون إلى اليهود الشرقيين من لبنان وسوريا بنوعٍ من الفوقية. لكنني سعيت لتغيير ذلك المفهوم عبر الحوار والتعليم. شرحت لهم أن اليهود الشرقيين هم اليهود الأصليون، أبناء هذه المنطقة منذ زمن إبراهيم وداوود، لم يغادروا الشرق الأوسط يوما. نحن من بقي هنا، نحمل جذور اليهودية الأولى وثقافتها العربية”

الطبيب الذي صار حاخاما

منذ طفولته، حلم عبادي بأن يصبح طبيبا: “كنت أعاني من الربو وأقول لو كان في عائلتنا طبيب لارتحت”.

بعد انتقاله إلى المكسيك قُبل في جامعة وطنية مرموقة، لكنها طلبت منه الحضور أيام السبت، وهو ما رفضه. “اكتشفت جامعة يشيفا في نيويورك التي تتيح الجمع بين الدراسة والالتزام الديني، فسافرت إليها”.

لكن الجامعة لم تسمح للأجانب بدراسة الطب. “نصحني أستاذي بدراسة الحاخامية أولا للحصول على الجنسية ثم دراسة الطب. درست الحاخامية ثلاث سنوات، تزوجت من فتاة أميركية، ثم درست الطب وخدمت كحاخام لكنيس يضم جالية من أصول لبنانية وسورية ومصرية”.

من نيويورك إلى الخليج

في نيويورك، وجد عبادي الحرية الدينية لأول مرة: “هناك نحو مليوني يهودي. في تلك المدينة شعرتُ بالحرية الحقيقية”.

لكن قصته مع الخليج بدأت مبكرا. يقول: “عام 2010 كنت في رحلة إلى الأندلس أشرح تاريخ التعايش بين الديانات. قال لي أحد المشاركين: هناك بلد عربي اليوم يريد أن يعيد هذا النموذج، إنها الإمارات”.

بدأ يلتقي بالزوار الإماراتيين في كنيسه في مانهاتن، ويُريهم كتبا يهودية قديمة بالعربية. “كانوا يُعجبون جدا بتلك المخطوطات، ومن هنا نشأت صداقات حقيقية”.

وفي عام 2019، قبل توقيع اتفاقات أبراهام، قدّم نسخة من التوراة هدية إلى روح الشيخ زايد، والتقى بالشيخ محمد بن زايد. “كان اللقاء وديا للغاية، قال لي جملة لا أنساها: أهلا وسهلا، نحن إخوة”.

من السرّ إلى العلن

قبل الاتفاقيات، كانت الجالية اليهودية في الإمارات لا تتجاوز مئتي شخص، يصلّون في فيلا خاصة بعيدا عن الأضواء. “لم تكن لقاءاتهم سرّية تماما، لكنها لم تكن علنية أيضا. بعد الاتفاقيات تغيّر كل شيء. طُلب منا أن نصبح جالية رسمية، واختاروني حاخاما ورئيسا لها”.

يصف عبادي لحظة التحول التي طرأت على وجودهم في الإمارات: “قبلها لم يكن أحد يرتدي الكيباه في الشارع. بعد الاتفاقيات صرنا نسير بلباسنا الديني، نستقبل الابتسامات ونسمع كلمات الترحيب: أهلا وسهلا، سعداء بوجودكم”.

“تلك كانت لحظة رمزية كبرى، أن يتحول الخوف إلى احترام علني”.

ومنذ ذلك الوقت، أقيمت الأعياد والاحتفالات بحضور شخصيات من الحكومة والمجتمع. “في 2021 أعلن طفل يهودي في مدرسة خليجية هويته الدينية بفخر. تأثرت كثيرا، لأن ما فعله هذا الطفل علنا لم أستطع أنا فعله في لبنان”.

الأديان كجسور

انتشرت للعبادي صورة يظهر فيها وهو يلقي كلمة في مسجد إماراتي، وقد أثارت الصورة جدلا كبيرا. لكنه يعلق على ذلك بهدوء: “دعونا الشيوخ والأئمة إلى الكنيس واحتفلنا سويا. نحن أبناء إبراهيم جميعا، فلماذا تتحول الأديان إلى جدران؟ يجب أن تكون جسورا”.

ويضيف: “في رأيي، نحو 80% من تعاليم اليهودية والإسلام متشابهة: الإيمان بإلهٍ واحد، عادلٍ وقادر، والاختلافات محصورة في الممارسات”.

يستذكر أول زفاف يهودي أُقيم في الإمارات: “كان حدثا مؤثرا جدا. في بلدٍ عربي لم يُسمع فيه بمثل هذا منذ قرن، نقيم زفافا علنيا ونرفع أصواتنا بالدعاء بلا خوف. بكيت لأنني أدركت أن ما أُغلق قبل مئة عام يُفتح اليوم من جديد”.

ثم يضيف بابتسامة هادئة: “أعتقد أن ثلاثة أرباع يهود العالم، باستثناء من يعيشون في إسرائيل، قد يجدون مستقبلهم في العالم العربي. الشرق الأوسط يمكن أن يعود موطنا طبيعيا لليهود كما كان لقرون”.

بين الحرب والتعايش

يرى عبادي أن الوجود اليهودي في الخليج لم يعد رمزيا: “التعاون الاقتصادي والتجاري حقيقي، والتبادل بين الإمارات وإسرائيل تجاوز مليار دولار سنويا”. لكنه لا يُنكر القلق بعد حرب غزة: “شهدنا تراجعا في أعداد الجالية من نحو ألفي شخص إلى نحو ألف. كما تصاعدت مظاهر معاداة السامية عالميا، ووقعت اعتداءات على كُنس في أوروبا وأميركا. لذلك عدنا إلى مرحلة الحذر الشديد ونعقد اجتماعات مع السلطات لحماية دور العبادة”.

يصف تجربة اليهود في الإمارات بأنها “نموذج مميز لكنه ليس الوحيد”: في البحرين جالية عريقة تحظى بالاحترام، وفي السعودية يهود يعملون في مجالات مختلفة. “نأمل أن تسمح الظروف بتأسيس جالية رسمية هناك قريبا”.

وعن أثر قصف إسرائيل لقطر في سبتمبر الماضي على مستقبل اتفاقيات أبراهام أو على مسار السلام بين إسرائيل وقطر، يقول عبادي: لا أعتقد أن له أثرًا جوهريًا. بطبيعة الحال، لكل دولة حساباتها السياسية وتوقيتها، وعليها أن تُدين مثل تلك الأفعال وتعلن موقفها الرافض لما حدث.

الدين والسياسة

عن العلاقة بين الدين والسياسة، يقول الحاخام إيلي عبادي إن “السياسة في الغالب تغلب المصلحة، وهذا ما يضعف إمكانيات السلام. لو ركز الساسة على مصلحة الشعوب لكان السلام تحقق منذ زمن”.

ويضيف: “كثير من الساسة لا يعرفون الدين معرفة حقيقية، يستخدمون النصوص لخدمة أجنداتهم. حتى لو أوضحنا لهم أن هذا ليس ما يقوله الدين، لا يستمعون لأن ذلك لا يخدم مصالحهم”.

كيف يمكن تصحيح ذلك؟

“يجب أن يؤمن الطرفان بالسلام. إذا أراد أحدهما إبادة الآخر فلن يتحقق السلام. أي وسيلة توقف الدماء هي الأفضل للجميع”.

ذاكرة الأب

في ختام حديثه، يعود عبادي إلى والده الذي رحل منذ أكثر من ثلاثين عاما: “كنت أتمنى لو عاش ليرى أنني عدت إلى بلدٍ عربي كحاخامٍ أكبر يُستقبل بالاحترام. والدي عاش النفي والاضطهاد وصودرت ممتلكاته. اليوم هناك من فتحوا لنا أبوابهم بالمحبة”. ثم يصمت لحظة قبل أن يقول: “أؤمن أنه يرى ذلك الآن من السماء، وأن روحه فرِحة بهذا اللقاء الإنساني بين المسلمين واليهود، بين أبناء إبراهيم الخليل جميعا”.

من بيروت إلى دبي، ومن الخوف إلى الأمل، تمتد رحلة إيلي عبادي كجسرٍ بين ذاكرةٍ منفية وواقع جديد يجرب التعايش مرة أخرى. بالنسبة له، ليست الأديان شعارات بل لحظات إنسانية بسيطة، صلاة علنية بعد خوف طويل، أو صورة تجمع إماما وقسّا وحاخاما بأيدٍ متشابكة.

 

المصدر: الحرة
زر الذهاب إلى الأعلى