كُلفة الاستئثار بالحُكم !!
اليمن ضحية فئات لم تستطع التكيف مع ضروريات الحياة المعاصرة ونتاجاتها السياسية والمعرفية والوطنية والاقتصادية والنفعية .
فبرغم ما افرزه التاريخ من مفاهيم وقيم ومصالح ، تستوجب التعاطي معها بمسؤولية وجرأة وموضوعية ؛ إلَّا أن هذه الفئات - وهي أقلية - وقفت بصلف وعناد بوجه هذه المسائل الضرورية الجمعية .
وهذه الممانعة كلفت اليمنيين فقدانهم للدولة ، باعتبارها الكيان السياسي المنظم والمجسد لتطلعاتهم وأمالهم في وطن ينعمون فيه بحياة كريمة مستقرة خالية من الصراعات السياسية العنيفة المتواترة .
لا أتحدث هنا عن تاريخ طويل من الألم ، ومن الدم النازف، ومن الإضطهاد والاقصاء والهيمنة ؛ سأكتفي بما حدث بعد الثورتين والاستقلال والتوحد ، فما تسببت به هذه الفئات لليمنيين أفدح مما تسبب به الغزاة القادمين من وراء الحدود .
سأذكر أن الشمال بعد ثورة ٢٦ سبتمبر خاض حربًا ضروسًا دامت ثمانية أعوام بسبب أن النسخة الإمامية الأولى أرادت إسقاط الجمهورية في مهدها ، ومن أجل أن يبقى اليمنيين عبيدًا طائعين لحُكم العترة الطاهرة جينيًا .
وإدعاء بحُكم اليمن ليس له أي مصوغ قانوني أو ديمقراطي أو أخلاقي أو ديني ، مجرد إرث من الاباطيل الزائفة ، وقرونا من الإمتهان والاصطفاء والإحتقار .
فحاكم صنعاء الجمهورية خاض صراعًا مريرًا مع النظام السلالي اولًا ، ومن ثم مع النظام في الجنوب ، ومع القوى الثورية المناهضة له ، فلم يعرف الشمال استقرارا في زمن الدولتين .
والحال ينطبق على حاكم الجنوب الذي بقى ربع قرن من الزمن محاربًا في جبهات عدة داخليًا وخارجيًا . فمنذ الاستقلال عن بريطانيا في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م استأثرت فئة واحدة بحُكم الجنوب ، وبمسميات واسماء عدة .
ومع هذا الأطر العمومية الأحادية في الشمال والجنوب ، ظل الصراع دائمًا بسبب فئة ورغبتها المتأصلة بالحُكم ، وباستئصال الفئات المختلفة معها بالراي ، وعزلها وملاحقتها أمنيًا دونما مصوغات قانونية أو أخلاقية أو ديمقراطية .
كان التوحد طوق نجاة للنظامين السابقين ، وكان الحدث مؤسسًا لحقبة سياسية مستقرة ، خاصة وأنه تزامن مع إعلان التعددية الحزبية كمبدأ ديمقراطي في دستور الدولة الجديدة، وكخيار لا مناص منه في الممارسة السياسية.
ومع ذا وذاك أبى الموحدين إلا أن يستأثروا بالسلطة ، النفسية الاستبدادية المتأصلة في الذات الحاكمة غير راضية بنتيجة صندوق الإنتخاب ، فكل فئة أرادت الديمقراطية وفق مقاسها الذي يبقيها مطلقة السطوة والنفوذ .
وبدلًا من أن تكون الدولة الموحدة نهاية لأزمات الفئتين الحاكمتين للشمال والجنوب ؛ كان التوحد ازمة جديدة ، لكنها أوسع وأشمل وأسوا من سابقاتها .
فمع أول اختبار حقيقي للتعددية ، كانت انتخابات ٢٧ ابريل ١٩٩٣م ، قاصمة ، إذ كشفت الممارسة عورة الاستبداد ، برزت للوجود معضلة الفئتين ، وفي رغبتهما الجامحة للإستئثار بالحُكم وبلا منتهى .
وبسبب رغبة الفئتين في الهيمنة اندلعت حرب ١٩٩٤م ، وما أن توقفت دانات السلاح بهزيمة الفئة الحاكمة للجنوب ، إلَّا وتجلت المأساة عارية ، فالحسم العسكري غالبا ودائمًا ما تكون نتائجه كارثية على المجتمع ومستقبل الدولة .
ولأن السلاح لا يولِّد غير الضغينة ورغبة الثأر والإنتقام ، فقد اتسعت الجبهات المناوئة للحاكم لتشمل شريك التوحد الذي أقصي بحرب ١٩٩٤م ، ومن ثم شركاء الحرب الذين اقصوا اثر انتخابات البرلمان ١٩٩٧م ، ومعهم الفئات المعارضة للنظامين سابقا ولاحقا .
استئثار الفئة الحاكمة بكل مقدرات الدولة العسكرية والمالية والاقتصادية والوظيفية أدى في المحصلة لأن يسود السخط والتذمر نتيجة للشعور بفقدان العدل ، وعندما تغيب العدالة يفقد الحُكم مبررات وجوده ، وتزعزع ثقة المجتمع به .
فحين بلغت الأمر حد توريث الجمهورية ، برزت نوع من المقاومة الشعبية ، وهذه المقاومة للأسف لم تأخذ بحسبانها خطورة الجماعة الحوثية ، فطالما الثورة غايتها إسقاط النظام العائلي القبلي ، فلا وقت هنا للتفكير بمآلات هذا التثوير للناس في الساحات والمدن .
جنوبًا كان هدف الحراك العدل والمساواة ، ورفض الإقصاء و التهميش ، وبسبب رفض الفئة الحاكمة التنازل عن مكاسب اعتقدت زمنا أنها حققتها بالقوة والقرابين ، دام هذا الحراك وقتا ، أخذا مسارات وأساليب وغايات متعددة .
كانت ثورة فبراير ٢٠١١م منطلقًا للتغيير السياسي السلمي ، لكنها قوبلت برفض وممانعة شرسة من الفئة الحاكمة شمالا ، ومن الفئة الطامحة بالحُكم جنوبًا ، وهذه الثنائية لا تعني بحال من الأحوال أن هذه رغبة معظم اليمنيين ، فأغلب اليمنيين رأوا في الإنتقال السياسي فرصة للتغيير ، ولقيام دولة اتحادية بمضامين وطنية عادلة .
للأسف هذه الدولة تعثرت ولادتها في اللحظات الأخيرة ، طبعا بسبب تكالب الفئات الحاكمة سابقًا ، فالجماعة الحوثية لم تخض ستة حروب من أجل دولة ديمقراطية مدنية ، بقدر ما كانت غايتها استعادة حُكم تعتقد أنه حقًا لها وبتفويض من رب السماء .
والحال ينطبق على الرئيس الأسبق وأتباعه ، فهذه الفئة تآمرت على السلطة الإنتقالية ، وبتحالفها مع خصمها الجماعة الحوثية السلالية أرادت استعادت ما تعتقد أنه نُزع منها بإنقلاب ( ثورة شعبية ) ، وبما أن غايتها الحُكم فقد عقرت الجمهورية ومبادئها ودستورها وتضحايتها ، لا لشيء غير رغبة الاستئثار بالحُكم .
الخلاصة اليمنيين إزاء فئات خارج سياق التاريخ والمصالح الجمعية ، فئات لا ترى في هذه البلاد غير ذاتها الأنانية الحاكمة دون سواها . فئات اختلفت وتنوعت طرقها وأساليبها ، لكنها متوافقة تمامًا في صميم تكوينها ورغبتها الجامحة بالاستئثار بالحُكم .
اليمن واليمنيون يستلزمهم دولة مغايرة تمامًا لسابقاتها ، دولة بمضامين عادلة تمنحهم حق إدارة وطنهم ؛ بمشاركة سياسية فعلية تمكنهم من اتخاذ القرار ، وامتلاك القوة والثروة ، ودونما وصاية أو إقصاء أو استئثار من أي فئة كانت ، جهوية أو مذهبية ، أو قبلية ، أو عرقية أو فئوية ..
محمد علي محسن