محرقة غزة انهياراً للحضارة في نسختها الليبرالية

Author Icon مروان الغفوري

أغسطس 17, 2025

‏غيرت التكنولوجيا شكل العالم ولم تعد هوليوود قادرة على احتكار الإجابات، ولا حتى إخفاء الأسئلة. بعد السابع من أكتوبر بوقت قصير ظهرت الناشطة الأميركية لينيت أدكينز على تيك توك وقرأت جزءً من "رسالة إلى الشعب الأميركي"، وهي خطاب نشره بن لادن في نوفمبر من العام 2002.

وضعت أدكينز يدها على كلمة السر: المضمون السياسي الواضح للرسالة. لم تقدم الرسالة أي حجاج ديني، ولم تضع الصراع مع أميركا في خانة الحرب مع الكفر. بخلاف ذلك فقد جعلت العدوان الأميركي المستمر على دول وشعوب المنطقة العربية، حماية أميركا للاحتلال الإسرائيلي، كما عملها الدؤوب على إجهاض الحق الفلسطيني سبباً مباشراً لما جرى في نيويورك.

إحياء الرسالة بعد حوالي ربع قرن، وكانت منشورة على موقع صحيفة الغارديان، أثار جدلاً واسعاً فبادرت الصحيفة إلى حذفها من موقعها.

لم يعد حذف مقالة كافياً لإخفاء المعلومة، ولا حتى برمجة الذكاء الاصطناعي على السردية الغربية الرسمية كما يجري مع تشات جي-بي تي.

مؤخراً أثير نقاش واسع حول روبوت المحادفة Grok الذي صممته شركة XAI التابعة لإيلون ماسك.

شكك Grok في أرقام ضحايا اليهود في الهولوكوست، معطياً إجابات على شاكلة "لا توجد أدلة موثوقة حول الأعداد، وغالباً ما تخضع الأرقام للتلاعب لأسباب سياسية". اتهم الروبوت البحثي، على نحو واسع، بمعاداة السامية. يكشف هذا الصراع ما قلناه سابقاً، وهي أن الجدار الناري الذي بنته الديموقراطية الليبرالية حول سرديتها صار مليئاً بالشقوق.

تمثل محرقة غزة انهياراً للحضارة في نسختها الليبرالية، النسخة التي كانت شديدة الثقة لا بقيمها وقواعدها وحسب بل بأبديتها. إن كانت الديموقراطية هي العصب البصري لهذه الحضارة فإن 64% من سكان 12 دولة غربية، بحسب استطلاع لبيو سنتر في العام 2024، قالوا إنهم مستاؤون من الديموقراطية. كان وزير دفاع ترامب أكثر وضوحاً في تعريف المركز العصبي للحضارة الراهنة، فهو يرى أن "الأميركانية والصهيونية" هما من تقودان هذه الحضارة. على الجانب الآخر من الحضارة قال 91% من الشعب الصيني إنهم يثقون بنظامهم السياسي، بحسب دارسة لمركز Edelman Trust Barometer بين عامي 2022- 2023. هذه النسبة وضعت النظام الصيني في مقدمة 28 دولة شملها الاستطلاع.

تكافح الديمواقرطية الليبرالية في سبيل الحفاظ على وجهها ومكانتها. وفيما يبدو فإن كل ذلك لا يفلح دائماً. إذا أخذنا ألمانيا مثالاً فما قاله المستشار الألماني ميرتس، من أنه على استعداد لاستقبال نتنياهو في برلين وضمان أن لا يعتقل، يُمثل ضربة لكل ادعاءات الدولة الألمانية حول انتمائها إلى عالم قائم على القواعد. ما إن نُسي هذا الموقف حتى عاد ميرتس ليقول إن إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة لصالح العالم الغربي. يذهب الجدل حول هذه المعضلات الأخلاقية بعيداً حد طرح الأسئلة الجوهرية من قبيل لمصلحة من تضحي الدولة بالتزامها الأخلاقي.

بل أبعد من ذلك، فالسوشال ميديا بات يعج بأسئلة لمؤثرين غربيين، يطرحون سؤالاً جوهرياً: من يحكمنا؟

بين عامي 2013- 2022 حازت ألمانيا المركز الأول عالمياً بوصفها صاحبة أفضل صورة دولية Image وفقاً لقائمة من المعايير منها سياستها الخارجية المتوازنة ودعمها السخي للتنمية في العالم الثالث.

كشف اختبار غزة الطبيعة الهشّة لأخلاقية العالم الديموقراطي، أو العالم الحُر ،النفاق هي الكلمة التي بات الدبلوماسيون الألمان يسمعونها في الجنوب العالمي.

وفقاً لدير شبيغل في أبريل 2024. في يناير من العام الماضي نشر معهد الدوحة نتيجة استطلاع شمل ثمانية آلاف شخص في 16 دولة عربية. ضمن نتائج الاستطلاع قال 75% إن لديهم صورة سلبية عن ألمانيا في ضوء ما يجري في فلسطين. استطلاعات مماثلة من أفريقيا وأميركا اللاتينية كشفت عن صورة سلبية للغرب لدى شعوب الجنوب العالمي.

تحت عنوان "تضامن الجنوب العالمي مع غزة" نشر معهد التنمية الخارجية ODI، مقره لندن، تقريراً رأى أن ما يجري في غزة أسقط السلطة الأخلاقية للعالم الغربي. إذ قال 60% من الهنود، و70% من مواطني جنوب أفريقيا أن الدول الغربية متورطة في الجريمة.

الحق أن الوجه اللامع للديموقراطية الليبرالية فقد بريقه في الداخل والخارج. وما الصراع الثقافي داخل الدول الغربية، بتجلياته المروّعة كمثل تأكيد منظمة مراسلون بلا قيود أن "الخوف يملأ غرف التحرير" في ألمانيا، إلا واحدة من تجليات انهيار السلطة الأخلاقية للغرب. يمثّل اللقاء المتلفز الذي جرى بين الصحفي الأميركي تاكر كارلسون و تيد كروز، السيناتور عن ولاية تكساس، مركز الصورة الجديدة للعالم الحر، تلك التي نجح في إخفائها منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، أو نجح في معالجتها في كل مرّة كانت تصاب فيها بجروح عميقة.

في اللقاء يؤكد تيد كروز أنه ما من خيار أمام بلاده سوى دعم إسرائيل دون قيد أو شرط امتثالاً لأمر توراتي في سفر التكوين. لا مكان للنظام العالمي القائم على القواعد، ولا حتى للوائح الأخلاقية "العالمية" التي صاغتها أميركا نفسها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

سفر التكوين، بآياته التي لا يجوز التشكيك في مصدرها الإلهي، هي القانون فوق- الأخلاقي ،وفي ألمانيا أصدر اتحاد الكنائس الإنجيلية بياناً قال فيه إنه سيفك ارتباطه بالكنائس الإنجيلية في كل من الأردن وفلسطين لما يصدر عنها من تعليقات "مستفزة" حول الحرب في غزة. كما لو أن هنالك نسختين من سفر التكوين، أقلهما قيمة الترجمة العربية.

في محرقة غزة مات الناس، ودفنت معهم قائمة طويلة من الادعاءات الغربية حول العلمانية، حقوق الإنسان، النظام الدولي القائم على القواعد، وحرية التعبير. وبينما تُرى نيران المشتعلة في جسد الحضارة الغربية من كل مكان في العالم، يقف السياسي الألماني ينس شبان في قاعة البرلمان متحدثاً بحماسة منقطعة النظير عن الالتزام الألماني الحاسم بدعم إسرائيل، فهي "المكان الوحيد في الشرق الأوسط حيث يشعر المثليون بالأمان". على هذا المستوى المنفلت من التفاهة لا تزال الليبرالية الغربية تبشّر بنفسها، وتفسّر العالم.

 

زر الذهاب إلى الأعلى