أقوى تمثيل عملي لفلسفة "ما بعد الاستعمار".
ترامب ليس أفضل ممثل لما بعد الحداثة فقط، كما قال الفيلسوف سلافوي جيجك، بل هو أقوى تمثيل عملي لفلسفة "ما بعد الاستعمار". قامت فكرتا ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار على نقد السرديات الغربية حول حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والعلم، رافضين اعتبارها سرديات عالمية عابرة للثقافات، واعتبروها محصورة فقط بالغرب والغرب وحده.
رغم أن اليسار الجديد كان السبّاق لاختراع وقيادة هذا التوجه، إلا أنه لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الأفكار السائدة في ما كان يُدعى “العالم الثالث”.
فالإسلاميون من ناحية، والقوميون من الناحية الأخرى، كانوا بدورهم ما بعد استعماريين وما بعد حداثيين، ورافضين لقيم التنوير الكبرى بدرجات متفاوتة (رفض جزئي عند القوميين وكلّي عند الاسلاميين). وهذا ما يفسر التأييد الكاسح والغامض الذي أبداه ميشيل فوكو مع الخمينية، والإعجاب المستمر لمثقفي ما بعد الاستعمار بالتجربة الإيرانية والأفغانية رغم وحشيتها وقمعها لشعوبها.
الجديد أن ترامب واليمين الجديد صاروا الممثل الأبرز للنزعة ما بعد الاستعمارية في السياسة الحالية.
ففي مؤتمر الاستثمار السعودي هاجم ترامب النيوليبرالية والليبرالية والتدخلات الخارجية في الشرق الأوسط، مستعيرا نفس خطاب اليسار الجديد، وأكد على أهمية أن تكون السياسات المحلية متحررة من الضغط الخارجي وقائمة على العادات والتقاليد المحلية.
مبعوثه إلى سوريا، توم باراك، كرر الخطاب نفسه، ملمحا إلى التمرد على الحدود التي رسمها الاستعمار (إعادة توحيد بلاد الشام!) وهاجم نزعات التغيير من الخارج باسم حقوق الإنسان، كما رفض كل دعوات الفيدرالية وأكد على أهمية توحيد سوريا بالقوة حتى ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء (مشبّهًا الشرع بجورج واشنطن!).
مشكلة خطاب ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار هي تناقض دوره في الغرب والشرق.
ففي الغرب كان هدفه تحدي السرديات المسيطرة حول العقل والحقوق والعلم والرأسمالية، بينما في الشرق كان مفعوله عكسيًا، فتحوّل إلى خطاب يدافع عن السرديات المسيطرة والقمعية: تأكيد على سيطرة الدين والتقاليد والعلاقات الاجتماعية المصادرة للفردية، والتشديد على عدم استحقاق تلك الشعوب للديمقراطية أو تناغمها مع حقوق الإنسان.
وهو تناغم كامل مع الخطاب الطالباني–الخميني–القاعدي في أكثر صوره راديكالية. والطريف أن ما بدأ كـ”نقد للهيمنة الغربية” انتهى بمديح للاستبداد الشرقي، وما كان يُسوّق كفلسفة ثورية أصبح أقرب إلى كتالوغ مجاني لأنظمة القمع. باختصار: ما بعد الاستعمار تحوّل إلى ما مديح للتخلف والاستبداد، وما بعد الحداثة صارت مجرّد دعوة أنيقة للعودة إلى العصور الوسطى… خطاب مثل هذا من السهل استخدامه من قبل الرجعيين والثوريين معا. فهو خطاب استشراقي عنصري حتى ولو اختفى تحت لافتة نزع الاستعمار.