جريمة التجويع عرّت القيم البيروقراطية
بالنسبة لإسرائيل فصراعها مع العرب في فلسطين يتعلق بالرواية قبل كل شيء. في بحر لجيّ، معادٍ بالضرورة، يمتد من أذربيجان حتى موريتانيا فإن لعبة "الرواية" ستكون حاسمة بالنسبة للوجود الإسرائيلي.
الحصن الغربي، كما أسماه كونراد أديناور، لا غنى له في أي وقت عن إسناد القوى الديموقراطية عسكرياً وسياسياً.
غير أن الكيان الغربي المعقد، حيث السلطة تمثيلية وحرية الوصول إلى المعلومة مبدأ أساسي، عرضة للتحولات والتبدلات.
يدرك الإسرائيليون أن الجماهير في لندن وباريس كانت سبباً حاسماً في إيقاف الحرب على مصر في العام 1956، وأن انفضاح جرائم الجيش الأميركي في فيتنام بعد العام 1969 حشرت البيت الأبيض في الزاوية. الرواية، إذن، هي كل شيء، وتستحق كل العناء.
يمكن لإسرائيل الحصول على احتياجها من السلاح والغطاء السياسي طالما امتلكت رواية جيّدة، وليس بالضرورة صحيحة.
مؤخراً وضعت حلفاءها الغربيين في زاوية ضيقة، وأقدمت على جريمة معقّدة يصعب إخفاؤها، ولا يمكن أن تُفهم في أي سياق أخلاقي، ما اضطر كثيرين من حلفائها إلى التلويح بورقة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لا في سبيل جلب السلام إلى الشرق الأوسط، بل "إلى شوارع بلدانهم"، كما يردد كتاب كثر. القيم الغربية هي، في آخر الأمر، قيم بيروقراطية أكثر منها أخلاقية.
جريمة التجويع عرّت القيم البيروقراطية أكثر من الجريمة الأم. ستجري القيم الليبرالية نقاشاً واسعاً حول ما إذا كان قتل سكان مدينة هيروشيما، جميعهم، يمثّل إبادة بشرية أم تكتيكاً عسكرياً نبيلَ الهدف، يرمي إلى إنهاء الحرب. غير أن تجويع المدينة، إن وقع، كان سيكون جريمة حرب بالتعريف البيروقراطي. لتوضيح الصورة أكثر سنذهب إلى مقالة "هيروشيما" للكاتب الأميركي جون هيرسي، أغسطس 1946.
نقل هيرسي بلغة روائية رفيعة الدقائق الأخيرة في حياة ستة أشخاص من سكان هيروشيما قبل الانفجار: قسيسان، طبيبان، موظفة شابة، وأرملة. هزّت مقالة هيرسي المجتمع الأميركي كما لم يفعل أي خبر آخر عن تلك الجريمة.
الرواية الجيدة، المصنوعة بالعاطفة والحقيقة، كالصورة العبقرية، كلاهما عملٌ خطر ،ففي يومياته بتاريخ 12 أغسطس، 1982، قال الرئيسي الأميركي ريغان إن صورة الطفلة اللبنانية، ذات السبعة أشهر، التي بدت مقطوعة الأيدي على صحيفة واشنطن بوست دفعته إلى استخدام كلمة "هولوكوست" في مكالمة غاضبة مع مناحيم بيغن.
يُعتقد، على نحو واسع، أن تلك الصورة أدت إلى توقف مؤقت للحرب على لبنان، يشابه الأمرُ التجربة القاسية التي مرّ بها المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة بعد التقاطه لصورة الطفل محمد الدرّة وهو يحتمي بوالده من الرصاص الإسرائيلي ،صارت الصورة إلى أيقونة عالمية، وحملت شوارع كثيرة اسم الصبي في دول عدّة. غير أن المصور الذي كان يعمل لصالح قناة فرانس 2 دخل في سلسلة من المحاكمات "الفرنسية" بتهمة التزوير حتى العام 2013.
في ثلاثينات القرن الماضي عجّت الأراضي المحتلة بالصحف والدوريات الصهيونية، بعضها عمل كمصدر معلومات رئيسية لكبريات الصحف الغربية، صارت الصهيونية مرجعاً أساسياً للحقيقة. اختفت فلسطين خلف تلك الصحف والمنشورات وبات من الممكن القول إنها أرض بلا شعب.
نجحت الصهيونية في تأكيد روايتها حول صراع الشرق الأوسط، كما فعلت مع رواية الهولوكست ، ارتقت رواية "الشرق الأوسط" إلى مصاف الهولوكوست، وجرّمت الرموز الفلسطينية المادية كالكوفية بالقانون في عدد من الدول الغربية ،ما يهدد استقرار الرواية الصهيونية حول الشرق الأوسط هو عملٌ بربري، وازدراء بالآلام اليهودية.
في ثمانينيات القرن الماضي حاول مجموعة من المثقفين الفرنسيين إجراء نقاش علمي حول رواية الهولوكست، تلك المحاولات نظر إليها بحسبانها تهديداً خطراً لرواية مستقرة، بل هي أم الروايات الحديثة. ردّاً على تلك المحاولات أقرت فرنسا قانون غيسو – نسبة إلى النائب الشيوعي الفرنسي جان- كلود غيسو. بموجب القانون فإن إعادة النظر في الهولوكوست هو فعل يرتقي إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية.
التبرير الأخلاقي للقانون جاء على هذا النحو "حماية الذاكرة التاريخية للجرائم ضد الإنسانية ومنع نشر الروايات التي تنكرها أو تبررها" ،يتعلق الأمر، في المقام الأول، بالرواية. والرواية، على هذا النحو، لا بد أن تصان بكل السبل.
يأتي كل هذا على حساب خارطة الحريات المدنية بما فيها حرية السؤال العلمي ،في سياق من "تهويد المعرفة"، إذا استعرنا من الراحل ممدوح عدوان، فإن السؤال العلمي قد يصبح جريمة ضد الإنسانية.
ثمة مغالطة عميقة تتحدث عن إسرائيل بوصفها بلداً للناجين من الهولوكست، ويستحسن الإعلام الألماني الإشارة إليها بوصفها كذلك، ربط الدولة الإسرائيلية بالهولوكست يعطي الألمان غطاء أخلاقياً للقول إن إسناد إسرائيل – دون قيد أو شرط- هدفه الحيلولة دون حدوث هولوكوست آخر بحق الشعب اليهودي.
إنها مكان لغفران الذنب الألماني، إلى هناك فرّ الناس من المدن الألمانية تأخذ الرواية، شعبياً على الأقل، هذا المنحى هل حدثت إسرائيل بسبب الهولوكست، أم حدث الهولوكست لأن إسرائيل لم تكن موجودة؟
يفضل المثقفون الصهاينة الجملة الثانية ،لكن دعونا نراجع بعض البيانات المهمة لنقترب من الرواية: تقول البيانات إن أقل من 4% فقط من يهود غرب أوروبا هاجروا إلى فلسطين ،بينما تعود أصول 45% من يهود إسرائيل دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي يهود السفارديم، يحتل يهود شرق أوروبا ومستعمرات الاتحاد السوفيتي المرتبة الثانية من حيث الحجم. ليس في فلسطين ناجون من الهولوكوست، وإن وجد فهو عدد بالغ الصغر.
البوغروم كلمة روسية تعني المذبحة، وإن شئت قل الهولوكست.
تقدم الصهيونية رواية إضافية تقول إن يهود روسيا وشرق أوروبا فرّوا إلى فلسطين في العقدين الأولين من القرن العشرين بعد سلسلة من المذابح "البوغروم" بحق الشعب اليهودي في الأراضي الروسية.
أكبر حادث "بوغروم" يمكن العثور عليه ضمن أفعال القرن العشرين يعود إلى العام 1903، حيث قُتل حوالي 47 يهودياً في الأراضي الروسية على إثر محاولة غامضة لاغتيال القيصر، قيل آنذاك أن ثائراً يهودياً كان ضمن الجماعة التي نفذت العملية.
يصير العدد 47، داخل رواية محكمة، إلى واحدة من كبريات المذابح البشرية في القرن العشرين. بل يغدو هجوم القادمين من روسيا على قرى عرب فلسطين وتهجيرهم أمراً مفهوماً. فما من خيار لأولئك الذين تركوا مذبحة مروعة خلف ظهورهم.