‏برنامج المتحري وإعادة كتابة التاريخ اليمني حسب السردية الحوثية (2)

Author Icon حسين الوادعي

نوفمبر 4, 2025

ثانيًا: الأخطاء التاريخية بين الجهل وسوء النية

الأخطاء التاريخية في البرنامج بالعشرات، وسأكتفي في هذه الحلقة بأهمها، ليس لقيمة البرنامج الفنية، بل لخطورته الدعائية.
الخطأ الفاضح الأول هو تصوير البرنامج موافقة إسرائيل على نقل الأسلحة جوًا للملكيين بأنها كانت بدافع “الصراع على باب المندب”. وهذا جهل بأبسط حقائق الصراع على البحر الأحمر. تدخلت إسرائيل بدفع بريطاني، ضمن صراعها مع مصر ورغبتها في توريط عبد الناصر في حرب طويلة في اليمن لتجنّب مواجهة مباشرة على حدودها. لم يكن لباب المندب أي علاقة بذلك.

كما يخلط الصحفي بين الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر والاهتمام بباب المندب، والفارق كبير. حتى عام 1967 كان الصراع بين إسرائيل ومصر يدور حول مضيق تيران وخليج العقبة، ولم يبرز باب المندب كعامل استراتيجي إلا بعد نكسة 1967.

في ذلك الوقت، كان اهتمام إسرائيل بالبحر الأحمر منصبًا على مينائي إيلات والعقبة وبقائهما مفتوحين للملاحة الدولية. أرادت إسرائيل، إذًا، محاربة مصر في اليمن، وكان الصراع مصريًا–إسرائيليًا على أرض يمنية، لا صراعًا بين اليمن وإسرائيل. وهذا ينسف السردية الحوثية التي يحاول البرنامج ترسيخها، بأن هناك صراعًا عسكريًا “يمنيًا–إسرائيليًا” ممتدًا منذ الستينات، وأن الحوثيين اليوم هم “ورثة” هذا الصراع التاريخي.

ومن الأخطاء الفادحة الأخرى قول المذيع إن تلك كانت أول عملية عسكرية إسرائيلية خارج نطاقها الجغرافي، وهو خطأ تاريخي جسيم. فالهدف من ترويج هذه الكذبة هو دعم السردية الحوثية حول “استهداف إسرائيلي–أمريكي تاريخي لليمن”.
في الحقيقة، كانت أول عملية عسكرية إسرائيلية خارج نطاقها الجغرافي في شبه جزيرة سيناء خلال حرب 1948، في عملية “حوريف” (Operation Horev)، حيث توغلت القوات الإسرائيلية داخل شمال سيناء حتى قرب العريش، كما تدخلت إسرائيل عسكريًا في الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن.

أما الاجتماع الذي قال البرنامج إنه تم في أكتوبر 1962، فلم يُعقد إلا في صيف 1963، وفكرة “الجسر الجوي” لم تُحسم إلا بعد هذا التاريخ. ورغم أن جميع ضيوف البرنامج أكدوا أن هدف إسرائيل كان الانتقام من عبد الناصر في اليمن، إلا أن المذيع انساق وراء سرديته الأيديولوجية الموجَّهة، ليختلق صراعًا “تاريخيًا” يمنيًا–إسرائيليًا بدأ مع قادة ثورة سبتمبر واستمر – حسب إيحاءات البرنامج – في الميليشيا الطائفية الحوثية.

يمضي البرنامج في تلفيق سردية صراع غير موجودة عبر ادعاء أن اليمن، وخاصة اليمن الجنوبي، قدّم دعمًا عسكريًا مباشرًا للفلسطينيين لمهاجمة السفن الإسرائيلية من الأراضي اليمنية. كمية الجهل والتلفيق في هذا الجزء غير معقولة.

فهو يخلط بجهل بين مرحلتين: ما قبل خروج الفلسطينيين من بيروت عام 1982، ومرحلة ما بعدها حين استقر بعضهم في عدن. قبل ذلك، كان وجود الفصائل الفلسطينية في الجنوب محدودًا، واقتصر دعم الحكومة اليمنية الجنوبية على الفصائل اليسارية فقط كالجبهة الشعبية وفي الجانب التدريبي فقط دون ان يسمح لها باستخدام الاراضي اليمنية لاي عمليات.
لكن المذيع يحاول إعادة صياغة التاريخ بأسلوب يخدم السردية الحوثية، فيصور أن الهجمات على السفن – كما يفعل الحوثيون اليوم – هي امتداد “تاريخي” لدعم يمني رسمي للهجمات المسلحة في البحر الاحمر منذ السبعينات.

ويستشهد المذيع بعملية الهجوم على السفينة “كورال سي” عام 1971 قرب جزيرة بريم، ليزعم أن الحكومة اليمنية الجنوبية كانت على علم بالعملية وسمحت بها (تركز الدعاية الحوثية على عملية كورال سي وتصور عنلياتها ضد السفن التجارية كامتداد لها).
إلا أن هذا الادعاء تزييف ساذج للتاريخ. فقد أدانت حكومة اليمن الجنوبي العملية رسميًا، ونفت علمها بها، بل اتهمت إسرائيل نفسها بتنفيذها عبر جواسيسها لاختلاق مبرر لتواجد عسكري في باب المندب (وهو ما تجاهله المذيع غفلة او عمدا).

كان موقف حكومة اليمن الجنوبي واضحًا في رفض أي مغامرات عسكرية تُطلق من أراضيها. وعندما اختطف فدائيون فلسطينيون طائرة ألمانية عام 1972 وتوجهوا بها إلى عدن، رفضت الحكومة تمامًا ما حدث، وأجبرت الخاطفين على إطلاق الطائرة والرهائن فورًا. ومع ذلك، ينتقي المذيع عناوين صحف توحي بأن الحكومة اليمنية كانت “داعمة” لتلك المغامرة الغبية التي اضرت بالقضية الفلسطينية.

تجاهل المذيع أيضًا بيان الجبهة الشعبية نفسها الذي أكد أن العملية تمت عبر خلاياها في خليج العقبة وعبر تواجد سري لمقاتليها في جزيرة حنيش، دون أي ذكر لدور رسمي يمني.

هدف الرئيس الحمدي، الذي حاول البرنامج تشويهه أيضا، كان إخراج باب المندب من الصراع الدولي ،ووضعه تحت سيادة الدول المطلة، وهو عكس ما يريده الحوثيون الذين وضعوا باب المندب في اليد الإيرانية.

زر الذهاب إلى الأعلى