كافكا لا يريد أن يموت في رواية فرنسية

الثقافة والفن
اليمني الجديد - متابعات

في رحلة طويلة، متوترة، معذبة، يستلهم الكاتب الفرنسي لوران سيكسيك أحداث روايته "فرانتس كافكا لا يريد أن يموت"، دار الرافدين، من مشهد حقيقي ومؤثر في حياة الكاتب التشيكي الفذ. تبدأ الرواية من نقطة النهاية، من لحظة موت كافكا في الثالث يونيو 1924 في مصحة كيرلينغ قرب فيينا، حين يقول كلماته الأخيرة إلى صديقه روبرت كلوبستوك: "اقتلني، وإلا فأنت قاتل"، بينما كان كافكا يحتضر، محطماً بسبب مرض السل، وممزقاً بأوجاع الروح والجسد.

تستمد رواية "فرانتس كافكا لا يريد أن يموت"، إلهامها من وثائق تاريخية دقيقة، تعد شهادة على قوة الكلمة في مواجهة الدمار، وتكشف عن جانب خفي من حياة كافكا لم يرو بهذه الدقة من قبل. تشكل كلمات كافكا الموجعة مدخلاً إلى عالم الرواية، فهذا التوتر بين الرغبة في الموت ورفض المصير المأسوي تلتقي السيرة بالتخييل، في استحضار ذاكرة أحد أعظم الروائيين في التاريخ، فرانتس كافكا، عبر التوقف أمام علاقته مع ثلاثة من أحبائه المقربين: حبيبته، وأخته، وصديقه. ومن خلال تقاطع هذه الشخصيات الثلاث في علاقتها المحورية معه، ينسج سيكسيك حبكته الروائية، حيث يتقمص الكاتب شخصيات محبي كافكا ليروي قصصهم المتشابكة مع قصته، كما يتتبع مصائر هذه الشخصيات بعد وفاته.

الرواية مقسمة إلى جزأين، الأول يرسم صورة مؤثرة لحياة كافكا القصيرة، المليئة بالحساسية الشديدة والصراع مع أبيه القاسي في سنوات الطفولة والمراهقة، ثم الهوس بالكمال الذي يدفعه إلى حرق كتاباته التي لا يرضى عنها، بينما الجزء الثاني يستكشف المصائر المأسوية لأقاربه وأصدقائه في ظل الحرب العالمية الثانية والإبادة الجماعية.

تحمل كل شخصية من الشخصيات الثلاث نظرتها الخاصة إلى كافكا وأعماله، وترتبط معه بعلاقة شديدة التعقيد والعمق في آنٍ واحدٍ، في مونولوغ داخلي، وفي استرجاع لمواقف وذكريات يكشفون عن مشاعر محتدمة نحو الكاتب الذي شغل مكانة سامقة، لذا نراهم جميعاً يحملون على عاتقهم مهمة حفظ إرثه الأدبي، على رغم رغبته في حرق معظم أعماله، باستثناء قصص مثل المحاكمة والتحول والقلعة.

الرواية بالفرنسية

التقى روبرت كلوبستوك بكافكا في مصح للأمراض الصدرية، وهو طالب طب شاب، ثم صار صديقه ورفيق أيامه الأخيرة خلال احتضاره. هاجر روبرت إلى نيويورك، حيث صنع لنفسه مسيرة لامعة كجراح متخصص في علاج السل. أما دورا ديامانت، وهي آخر حبيبة لكافكا، فقد عاشت معه علاقة عاطفية عميقة ومتوهجة تحملت خلالها برضا مزاجية كافكا ومرضه، هربت دوراً من النازية ثم من الإرهاب الستاليني، وظلت حارسة لذاكرة كافكا. وهناك أوتلا، شقيقة كافكا المقربة التي بقيت في براغ إلى أن تم ترحيلها، ثم ماتت في أحد المعسكرات بعدما رافقت مجموعة من الأطفال اليهود إلى غرف الغاز.

قلب أوروبا الوسطى

تغوص الرواية في أعماق الذاكرة، متتبعة رحلة هذه الأرواح الثلاث، وما تركه صاحب المسخ من بصمات على مسارات حياتهم. يروي سيكسيك قصة صمودهم في معركة ضد النسيان، والمرض، والموت. أما كافكا، فإنه يظهر خلال السرد واهناً هشاً، لكنه يجاهد من أجل تحويل قلمه إلى قوة حية يواجه عبرها المرض، فيجعل من الأدب ملاذاً يتحدى الموت ويمنح الوجود معنى حقيقي يكمن وراء مصيرنا البشري كله.

يتداخل التاريخ الشخصي للأفراد مع التاريخ الجمعي لأوروبا خلال صعود النازية، وفظائع المحرقة، والتطهيرات الستالينية، والمنافي المريرة. تظهر أوروبا الوسطى ممزقة من أثر الحروب والدمار، بينما يبرز الفرد الأعزل شاهداً على التاريخ، يحمل في صمته وبقائه قصة الإنسانية النازفة بسبب حرب عظمى.

يتجاوز سيكسيك حدود الواقع ليغوص في أعماق النفوس المحيطة بكافكا. أسلوبه يجمع بين الدقة التاريخية والخيال الروائي، مما يمنح القارئ شعوراً بأنه شاهد مباشر على تلك الأحداث. يعتمد الكاتب على مراسلات كافكا ووثائق حقيقية ليبني شخصياته، لكنه يستلهم في رحلته الإبداعية هذه من أعمال كافكا نفسه، مثل المحاكمة التي تبدو نبوءة للكوارث القادمة. الرواية لا تكتفي بسرد الحقائق، بل تحولها إلى لوحة أدبية يتداخل فيها الشخصي مع التاريخي، ويصبح كافكا رمزاً للعبقرية المعذبة التي ترفض الموت. وفي الوقت نفسه يصور سيكسيك جهود أصدقائه في إنقاذ مخطوطاته من النار النازية.

مزيج إبداعي

يتميز لوران سيكسيك بقدرته على الجمع بين الدقة الطبية والإيقاع الموسيقي في السرد. من خلال خلفيته كطبيب وكاتب روائي، يصف سيكسيك مرض السل الذي أودى بحياة كافكا بمفردات علمية دقيقة ومحايدة، مما يمنح الوصف طابعاً خالياً من الزخارف الوصفية، كما في عبارته عن "الحمى الشنيعة التي لا تكون خفيفة أبداً". هنا يتحول المرض إلى عنصر درامي يعزز من الواقعية، شبيهاً بما فعله في روايات سابقة مثل "الأيام الأخيرة لستيفان زفايغ"، عبر استدعاء تقاطع الفكر الأدبي مع المرض والموت.

تمنح الرواية القارئ أملاً قوياً حول أثر الفكر والثقافة أمام التهديدات الواقعية، وتتوسع في استكشاف حساسية كافكا الشديدة، مبرزة إياه كرمز للاغتراب الوجودي، مما يضيف بعداً جديداً لشخصيته. ولعل ما يميز هذه الرواية أيضاً هو قدرتها على إثارة الرغبة في إعادة قراءة أعمال كافكا، من منظور جديد يربط بين الإبداع والمعاناة الإنسانية القصوى، تداخل المرض مع الحرب، مع التساؤلات الوجودية والفنية.

الرواية بالترجمة العربية

لا يبدو أن سيكسيك يسعى إلى منافسة عبقرية كافكا، بل إنه يرغب في تقديم تحية حارة له، مستكشفاً جوانب حميمية في حياته، مثل حبه لدورا، ومثل محاولته للتوازن بين هوسه بالكتابة ووظيفته المرهقة في شركة تأمين.

هذه الرواية، بغناها الوثائقي والعاطفي، تعد إضافة قيمة إلى أدب السير الذاتية الروائية، حيث يصبح كافكا، الذي توفي بسبب السل، رمزاً للمقاومة من خلال الكلمة. في النهاية، "فرانتس كافكا لا يريد أن يموت" ليست رواية عن الموت فحسب، بل عن الحياة التي تستمر عبر الذاكرة والأدب، في وجه كل الظلمات التاريخية.

لكن يبقى السؤال الجوهري: هل نجح لوران سيكسيك فعلاً في إحياء كافكا بروح جديدة معاصرة، تمنح القارئ فرصة لإعادة اكتشافه، أم أن الرواية وقعت في فخ تمجيد الماضي وإعادة إنتاجه بصياغة مختلفة؟ قد يرى بعض القراء أن حضور كافكا في النص قوي وحي، يضيء على جوانب إنسانية لم تبرز سابقاً، بينما قد يعتبر آخرون أن الاعتماد المفرط على الوثائق والتخييل التاريخي يجعل الرواية أقرب إلى إعادة سرد لسيرة معروفة أكثر من كونها إبداعاً روائياً مستقلاً. ولعل هذا التجاذب هو ما يمنح الرواية قيمتها وجدليتها في آنٍ واحدٍ.

يذكر أن لوران سيكسيك، كاتب فرنسي من أصول يهودية، يعد صوتاً مميزاً في الأدب المعاصر بفضل قدرته على نسج السير الذاتية بالخيال الروائي، إذ ينجذب إلى التاريخ الأدبي كمنبع للإلهام، كتب عن شخصيات بارزة مثل ستيفان زفايغ في "الأيام الأخيرة لستيفان زفايغ"، وفينسنت فان غوخ في "الأيام الأخيرة لفان غوخ"، إضافة إلى استكشافه لعائلة أينشتاين في "قضية إدواردو أينشتاين". يظهر هذا التنوع شغفه بإعادة تخيل لحظات حاسمة في حياة هؤلاء العباقرة، مركزاً على صراعاتهم النفسية والإنسانية في سياقات تاريخية مضطربة، ويعكس أسلوبه، الذي يمزج بين الدقة الوثائقية والحساسية الأدبية، جاذبية التاريخ الأدبي كمرآة للمعاناة البشرية، مما يجعل أعماله تحيي التراث الثقافي بطريقة معاصرة ومؤثرة، تستدعي الماضي إلى قلب الحاضر، بغية العثور على ما حجبه الزمن وغاب عنا.

المصدر: لنا عبد الرحمن + عربية INDEPENDENT
زر الذهاب إلى الأعلى