قصة اول أيامنا في الكلية الحربية: الوجع المشرف وكيف صرنا أرقاما ؟
في مثل هذا اليوم 23/ تموز / 2024 ، وفي نهار عدني ملؤه الرطوبة والحر ، خطوت أولى خطواتي إلى المجهول...
لم تكن تلك البوابة الحديدية الضخمة سوى فم وحشٍ ينتظرني، يفتح فكيه لالتهامي. لم أكن داخل مؤسسة، بل في طقوس تجريد، نزعوا عني اسمي، وتاريخي، ومرجعيتي كـ"مدني جامعي".
هنا... أنت رقم. رقم فقط في دفعة 3 جامعيين طالب مستجد تحت الإختبار هذا هو رمز تعريفك .
أول المفاجآت لم تكن بداخل السكن ، بل في بوابة الكلية . سألت أحدهم وأنا أحمل شنطتي ببراءة:
– "هذه الكلية الحربية؟"
رد ساخرًا:
– "لا، هذه كلية الاداب، جاي تدرّس لغة؟"
ضحك من حوله، قبل أن يأتي الرد الجاد من عسكري بملامح متجمدة:
– "هذه الكلية الحربية... بس تأخرت، بالسريعة . ادخل، وتوكل على الله".
وما أن دخلت حتى وقعت في فخ الاستقبال من طلاب
الدفعة 52 ، كأنهم وحوشا بشرية تشكّلت من سنين العرق والعدس والصياح .. صفًا عسكريًا من الكراهية الجاهزة، ينتظرون "المستجد الجامعي" ليُمرغوه في طين الواقع.
كان من ضمن الداخلين معي زميل اسمه ' سامي الغزالي " وله اخ في الدفعة السابقة لنا بعام ، رجل وعريف مشحوط معروف لدى دفعته بالانضباط والحزم ، فور ان شاهدوا شقيقه معنا قاموا باستدعاء زميلهم كي يرى فعلهم به .
وكان هذا درسنا الأول الذي يعني "ان المعرفة داخل هذه الأسوار تضرك اكثر من ان تنفعك ".
وهكذا تم الترحيب بنا من الدفعة الأقدم :
– "اسمك؟!
– من ظلمك ودخّلك الكلية؟!"
– "ليش ما جلست لك في قهوة شعبية جنب الجامعة؟!"
كانوا يطوقونني بنظرات كأنها فوهات بنادق . صرخوا، قلّبوا الشنطة، فتشوا، نثروا ملابسي على الأرض، ثم قال أحدهم:
– "معك مخدرات؟ متفجرات؟ ولا جاي تنكت علينا؟!"
أجبت مرتبكًا:
– "أنا محترم، من عائلة وناس !"
فجاء الرد كصفعة:
– "وإحنا عيال مَن؟! إحنا عيال الكلية الحربية، والميدان يعرفنا".
بدؤوا ينهشون في داخليتي ،كما تنهش النار ورقًا جافًا. أحدهم قال:
– "هنا مش قاعة جامعة... هنا تنام واقف، وتصحو على صرخة، وتأكل عدس أكثر من كلام أمك".
ثم جاء "احد الضباط" (بمعناه المادي والمعنوي)
قالوا لي:
– "عدديّن يا مستجد… وما تسأل،نفذ كل امر بلا تردد أو شك هكذا هو نظامنا .لا مجال للتراجع ".
كان في استقبالنا النقيب هيثم منصور ،الذي اصبح بعدها قائدا للسرية التي أنتمي إليها .
الشنطة الحديد… وحكاية العذاب المحمول على الأكتاف.
تلك الشنطة الثقيلة، ساخنةً كأنها صنعت من بقايا دبابة، صلبة كالقيد، لا ترحم الكتف ولا الظهر .
قال لنا أحد العساكر القدماء بابتسامة شيطانية:
– "هي صاحبتكم الجديدة… بتنام معكم، تصحى معكم، تمشي معكم… وإذا رجعتوا من الطابور وما هي فوق كتفك، بيحصل لك فوقه".
كنا نحملها وفيها كل شيء: ملابس، أحذية، أدوات حلاقة، بطانيات، كتب، وغير ذلك .
ثم جاء الأمر:
– "جري… والشنطة على الكتف!"
ركضنا. الشنطة تقرص الكتف من جهة، والعريف يصيح من الجهة الأخرى، والسماء تسخر منّا بصمتها.
– "ارفع شنطتك فوق! مش فوق راسك؟ رجلك فوق وشنطتك فوق… افهمها يا جامعي!"
كلمة "جامعي" كانت تُقال هنا لا كميزة… بل كشتيمة.
في أحد الجولات، سقط أحدنا من شدة التعب.
اقترب منه العريف ونبهه وهو يقول:
– "تسقط في الميدان؟! ارجع لقسمك الجامعي، شوف لك دكتور يشخص لك التعب النفسي!"
ثم التفت لنا:
– "هنا ما في وجع رأس… هنا وجع جسم، وجع كعب، وجع رجل، بس ما في وجع عذر!"
أمرونا بالوقوف في وضعية "الشنطة الأمامية"… نحملها كأننا نحضن القسوة نفسها، ثم يمرّ أحدهم صارخًا:
– "اضغط عليها كأنها قلبك! قلبك من حديد؟ أرنا الآن!"
تبدأ الأوامر تتساقط كما يتساقط العرق من الجبين:
– "زحف!"
– "وقف!"
– "نزل!"
– "قم!"
– "جري... والشنطة فوق رأسك!"
كانت الشنطة ليست حملاً فقط… بل اختبارًا للصبر والكرامة.
في لحظة، سألت نفسي:
– "ماذا أفعل هنا؟"
لكن الجواب جاء من وجوه زملائي... كلنا في الهاوية ذاتها، وكلنا نُجلد بالسياط نفسها.
صرخ في وجهي عندها النقيب هيثم منصور انت لم تحلق جيدا بالموس ، إذ إنني حلقت في أول يوم ، ودخلت الكلية في اليوم الثاني بمعية الزميل علي عبدالكريم العود .
ثم قال أخرج شفرة الحلاقة وأشار بيده : اذهب الى هناك .. كان في زاوية الرصيف زميلا لي يدعى الفليسي الذي بدأ بقرش راسي بالمكنة السفري ، بعد أن كنت حاولت بنفسي واصبت رأسي بجروح سال منها الدم .
قام بما يلزم وعيناه تقولان لي لا تستعجل دعنا نرتاح قليلا ولو على حساب رأسك المربع هذا، قلت حسنا كوننا حقيقة قد تعبنا وجفت حلوقنا.
كانت الأصوات تملأ الأفق:
– "هيااااا… شد! لا ترخي ظهرك، لا ترخي روحك!"
كأنهم يريدون أن نُولد من جديد… جيل جديد بلا دلال، بلا ترف، بلا ذكريات، فقط رجال بنكهة النار والحديد.
وما تزال الشنطة الحديد على كل كتف…
لا أعرف من أثقل، هي أم التجربة.
– "الرحمة جريمة في أول 45يوماً ".
حاولت أن أصدق أن الليل سيمرّ بسلام... لكنه لم يفعل.
عند العاشرة تقريبًا – لا ساعات لدينا، الوقت يُعرف بالصلوات فقط
اقتحم المكان سيلٌ من الصراخ:
– "ثااابت! ثبت الدم في عروقك! ثبت عيونك في الجدار!"
كأن الزمان توقف، كأن الهواء تجمّد.
بدأ التفتيش. مرّوا بين الفراش، يصرخون، يشتمون، يسحبون البطانيات عن الأجساد المرتجفة.
أحدهم سحبني من رجلي:
– "عادك دقيقتين في الجيش وتنام؟! قوم يا ناعم... قوم من فندق سبع نجوم وأدخل نارنا!"
تلك الليلة لم تكن مجرد عبور...
كانت تشظّيًا. انهدامًا. تحوُّلًا جذريًا من كائن بشري عادي، إلى مشروع جندي، يُعاد صهره على نار النظام، والصراخ، ولاوي الأوامر والثبات .
وهكذا كل من ينجو من الليلة الأولى...
يُكتب له أن يُولد من جديد.
منذ اللحظة الأولى التي دلفنا فيها إلى ساحة الكلية، بدأ وكأننا دخلنا إلى عالمٍ آخر... عالمٌ لا مكان فيه للراحة، ولا موطئ فيه إلا للانضباط والخوف والاختبار.
لم نكن نخطو حتى خطوة واحدة إلَّا وتنهال علينا الأوامر كالرصاص، وتتعالى الأصوات فوق رؤوسنا كالصواعق. حربٌ حقيقية – لا بالسلاح – بل بحربٍ نفسية من ضباطٍ وعرفاءٍ يختبرون فينا الصبر، ويكسرون فينا كل شيء سوى الإرادة."
مجرد التفكير بالعودة او الانسحاب او حتى حساب فترة التخرج كان كفيل بمحوه كلام بعض الضباط "مازال امامكم جبل من كدم وعدس يساوي جبل AR حتى تنتهي ايامكم هنا.
"كانت الحالة المعنوية في الحضيض؛ نبحث عن لحظة هدوء فلا نجدها، وعن وجه مألوف يبتسم فلا نعثر عليه. كنا مجرد أرقام تُنادى، وجباهٌ تُبلّل بالعرق، وعيونٌ يملؤها القلق.
تساءل بعضنا في قرارة نفسه: هل أخطأت الطريق؟ لكننا صمدنا، وعضضنا على جراح الغربة والرهبة، لنكمل ما بدأناه، ونثبت أننا أهلٌ لهذا الطريق الشاق.
هكذا، عبرنا تلك المرحلة.
بمرّها قبل حلوها، وبقسوتها قبل دفئها. تحملنا الشنطة والعدس، الركض والدبغ، الأوامر والصيحات، حتى صارت أجسادنا تعرف لغة الحديد، وصار قلب كل واحدٍ منا ينبض بإيقاع الانضباط والولاء.
لكن الأهم من كل ذلك… أننا عرفنا بعضنا.
صرنا إخوة. أبناء دفعة واحدة. نكمل بعضنا، نحمل عن بعض، نضحك تحت الدبغ، ونقف كتفًا بكتف في وجه التعب والمجهول.
ولأننا كنا جسدًا واحدًا كان لنا شرف أن نرى رفاقنا اليوم وقد صاروا ضباطًا، يقودون الصفوف، ويشرفون الوطن.
تحية عسكرية لكل من عبر معنا هذا الطريق…
لكل من بقي على العهد، وفياً للوطن، مرفوع الرأس، ثابت الخطى.
أنتم فخر الوطن… ورجاله حين ينادي .
تحية عسكرية خالصة… لكل زملاء وضباط الدفعة الثالثة جامعيين، دفعة الرجال لا المستجدين ..