يوسف المداني.. إعادة هندسة الولاء داخل البيت الحوثي
لم يكن تعيين يوسف المداني رئيسًا لهيئة الأركان العامة، خلفًا لمحمد الغماري الذي قُتل في غارة إسرائيلية، قرارًا عابرًا في مسار الجماعة الحوثية، بل خطوة كاشفة لطبيعة الصراع الداخلي حول السلطة والنفوذ داخل ما يُعرف بـ"البيت الهاشمي"، الذي يتزعمه عبدالملك الحوثي منذ عقدين.
المداني ليس وجهًا جديدًا أو قائداً ميدانياً محدود الدور؛ إنه من الجيل المؤسس للحركة الحوثية، وأحد أبرز من صاغوا بنيتها العسكرية والأيديولوجية. لكنه في الوقت نفسه ينتمي إلى سلالة تزعم انها هاشمية راسخة النسب، تمتد إلى الهادي يحيى بن الحسين، مؤسس الإمامة الزيدية في اليمن، ما يمنحه رمزية دينية واجتماعية تفوق رمزية أسرة الحوثي نفسها، التي لا تزال محل تشكيك حتى داخل بعض الدوائر الهاشمية التقليدية.
هذا البُعد الرمزي يجعل من تعيينه خطوة مزدوجة الدلالة: من جهة هو تكريم محسوب لشخصيةٍ نافذة داخل الجماعة، ومن جهة أخرى وسيلة لتطويقها وتحجيمها داخل منظومة الولاء للزعيم.
فعبدالملك الحوثي الذي يدرك تمامًا خطورة بروز أي مركز ثقل داخل تيار مايسمى الهاشمي خارج سيطرته، اختار أن يمنح المداني منصبًا كبيرًا دون أن يترك له مساحة حقيقية للتحرك.
منذ نشأتها، اعتمدت الحركة الحوثية على مبدأ بسيط لكنه بالغ الفاعلية: "السلطة لمن يطيع". فكل ولاء يُكافأ بامتياز، وكل طموح يُقمع إن تجاوز حدّه. ومع انتقال القيادة من حسين الحوثي إلى والده بدر الدين، ثم إلى عبدالملك، تحولت الجماعة إلى نظامٍ عائلي مغلق، يُعيد إنتاج فكرة "الحق الإلهي" في الحكم، لكن بثوبٍ ثوريٍّ مزيف، وبشعارٍ مضللٍ عن مقاومة الاستكبار.
ومع مرور السنوات، وخصوصًا بعد سيطرة الجماعة على صنعاء عام 2014، بدأت الأُسر الأخرى التي تزعم انتسابها للهاشمية – التي كانت السند البشري والعقائدي للحوثيين – تشعر بأنها الطرف الذي يدفع الثمن دون أن يحصد شيئًا.
فمئات القتلى من أبنائها في الجبهات، وملايين الريالات التي أنفقتها في تمويل الحرب، لم تُترجم إلى مشاركة حقيقية في القرار أو النفوذ.
وهنا تحديدًا بدأ يتشكل وعيٌ جديد داخل المدعيين انتسابهم للهاشميين أنفسهم:
أن سلطة الحوثي لم تعد مشروعًا جماعيًا للسلالة، بل أصبحت ملكية خاصة بآل الحوثي، يحتكرون القرار والمغانم ويُلقون بالباقين إلى محارق الحرب.
ومع تراكم هذا الإدراك، بدأت مؤشرات التململ تتزايد داخل النخبة الهاشمية، خصوصًا تلك التي تمتلك وزنًا عسكريًا أو اجتماعيًا.
لذلك، فإن تعيين يوسف المداني لا يمكن قراءته إلا كجزء من عملية إعادة هندسة دقيقة للولاء داخل الجماعة.
عبدالملك الحوثي يدرك أن الخطر الحقيقي على سلطته لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من بين الذين يشاركونه النسب والعقيدة لكنهم بدأوا يشكّون في "حقه المطلق" في الزعامة.
ومن ثمّ، جاء هذا التعيين كخطوة استباقية لإعادة ترتيب البيت الهاشمي (كما يسمونه) وضبط إيقاعه.
غير أن هذه الخطوة، مهما بدت ذكية، لا تضمن الاستقرار.
فالصراع داخل الجماعة لم يعد يدور حول المواقع فحسب، بل حول منطق الحكم نفسه:
هل تبقى السلطة ميراثًا فرديًا يحتكره عبدالملك وأسرته، أم تتحول إلى مشروعٍ تشاركي داخل النخبة التي دفعت الثمن الأكبر؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد مستقبل الجماعة، وربما مصير سلطتها وبقائها في اليمن.
فكل المؤشرات تقول إن عبدالملك الحوثي يحاول الإمساك بالسلطة بقبضةٍ من حديد، لكن قبضته بدأت ترتجف أمام تنامي طموحاتٍ مكبوتة داخل بيته نفسه، وبين أوساط من بدأوا يدركون أن مشروعه ليس ثورةً ولا دولة، بل إمامة جديدة بوجهٍ معاصر وشعارٍ مخادع.