اليمنيون وجرح الانتماء: كيف تحول الألم الوطني إلى شماتة؟
لم يفقد اليمنيون شعورهم بالانتماء بين ليلة وضحاها، ولم يولد الميل إلى تمزيق الجغرافيا أو تبرير تدخل الخارج كغريب على هذه الشخصية العريقة. ما حدث هو عملية تراكُم طويلة، كسرت في داخل الإنسان اليمني مفهومه لذاته، وانتزعت منه إحساسه بقيمة وطنه حتى صار يتلذذ ـ نفسيا لا عقلا ـ بمشهد الانهيار، معتقدا أنه انتقام للظلم الواقع عليه أو خلاص من قيد ثقيل!.
هذا التحول يمكن فهمه من خلال عدة عوامل متداخلة، تتوافق مع النقاط التي سبقت، لكنها تكتسب في السياق اليمني خصوصية أشد قسوة..
يشعر اليمني أنه غريب في وطنه:
لعقود طويلة، تراكمت لدى المواطن اليمني قناعة راسخة بأن الدولة ليست له، وأن القانون لا يحميه، وأن السلطة أداة بيد فئة تتحكم في مصائر الناس دون مساءلة.
في الشمال كما في الجنوب، وفي المدن كما في الأرياف، كان اليمني يخوض يوميا معركة من أجل كرامته الأساسية: الكهرباء، الماء، الراتب، الأمن، الطريق، الوظيفة، وحتى أبسط المعاملات الرسمية..
هذا الإحساس العميق بالظلم خلق انفصالا وجدانيا عن الوطن. صار اليمني يرى اليمن كحمل ثقيل، لا كحضن.
ومع الوقت، بدأ البعض يتشفى في البعض الآخر لأن هذا البعض في نظرهم كان مصدر الألم..
تدهور الثقة في القيادة والمؤسسات: من دولة الجميع إلى دولة الفئات
انهارت الثقة في السلطة اليمنية باختلاف مراحلها.
شعر الناس أن الحكم لم يعد كيانا يمثل الشعب، بل حصة تتقاسمها فئات نافذة أو أطراف مسلحة..
حينم رأى المواطن أن السلطة أصبحت غريما لا حكما، وأن كل طرف يتحدث باسم “الوطن” بينما يصادره لمصلحته، بدأ الوطن نفسه في الانكماش داخل وعيه.
تحول إلى “أسهم” تتنازعها أطراف القوة، فنهار الولاء الوطني. ومن هنا جاء الاستعداد لتبرير تقسيم البلد، فالمواطن لم يعد يشعر بوجود وطن واحد حتى يدافع عنه..
حينما أصبح الخراب جائزة نفسية
اليمنيون خبروا الفقر، البطالة، الحصار، انهيار مؤسسات الدولة، تدهور الخدمات، وانسداد الأفق.
تكرار الخيبات ولد لديهم ما يمكن تسميته بـ اليأس العدواني:
يأس يجعل الإنسان يتمنى سقوط النظام، والمدينة، والمنطقة، لكي “يرتاح” من شعوره بالخذلان..
يتلذذ البعض بالمشهد الكارثي لا لأنه يحب الدمار، بل لأنه يرى فيه عقابا لخصومه، أو إثباتا لصحة مواقفه، أو فرصته أخيرا كي يصرخ:
“أرأيتم؟ لقد كنت على حق!”
حينما أصبحت القبيلة والطائفة أهم من اليمن
لم يعد اليمني يرى نفسه ضمن وطن واحد، بل ضمن مجموعة فرعية مرجعية:
قبيلة، منطقة، طائفة، حزب، جماعة مسلحة…
وحينما تغولت هذه الهويات، تراجع معنى الوطن.
النتيجة؟
صار البعض يقول ـ بوعي أو لا وعي ـ:
“ما يهمني هو جماعتي فقط، وليذهب بقية اليمن إلى الجحيم..”
وحينما أصبحت الجماعة أهم من الجغرافيا، أصبح تقسيم البلد ليس فقط ممكنا، بل “مستحبا” عند البعض لأنه يحقق لهم مساحة صافية خالية من الخصوم..
تم صناعة وعي جديد يرى الانهيار خلاصا
منصات إعلامية داخلية وخارجية اشتغلت لسنوات على زرع الكراهية بين اليمنيين.
شجعت خطاب التخوين، شيطنة المناطق، تحميل كل كارثة لمنطقة أو طائفة أو طرف بعينه.
تكرار الرسالة صنع تحولا خطيرا: صار تفكك اليمن يبدو في ذهن البعض “حلا”، وتدخل الخارج “ضرورة”، وخيانة الوطن “بطولة” شرط أن تؤذي العدو الداخلي..
وبهذا تحول الوطن من قيمة جماعية إلى ساحة تصفية حسابات!.
صدمة الحرب الطويلة: من وطن يحضن إلى وطن يستنزف
الحرب لم تنهك الجسد اليمني فقط، بل مزقت روحه.
أصبح اليمن بالنسبة لكثيرين ساحة دم، وخوف، وفقد، ونزوح، وثكل.
هذه الصدمات المتراكمة جعلت الكثيرين يتراجعون إلى غريزة النجاة الفردية:
“أريد أن أنجو… حتى لو احترق الوطن..”
عندما يتألم الإنسان طويلا دون أفق، تنطفئ مشاعر الانتماء الكبرى، ويبدأ يرى الوطن كسبب للألم لا كجزء من الهوية..
غياب المشروع الوطني: اليمن بلا حلم
لم يعد لليمن مشروع جامع يحلم الناس به.
كل طرف لديه مشروعه الخاص، ورؤيته للغد، وأجندته المدعومة من الخارج.
عندما تغيب الرؤية المشتركة، يغيب الوطن ذاته كمعنى، يصبح مجرد أرض قابلة للتجزئة، لا رسالة مشتركة توحد..
ومن هنا نفهم هذه الظاهرة النفسية الغريبة:
التلذذ بتقسيم البلد نكاية بخصوم داخليين. ليس لأن اليمني يحب الانفصال أو الكراهية…
بل لأنه فقد ثقته في وطن لم يمنحه شيئا، وفقد ثقته في نفسه وسط هذا الخراب..
اليمني بين جرح القيمة وخراب الانتماء
فقد المواطن اليمني شعوره بقيمته، لأنه عاش سنوات شعر فيها أنه بلا وزن، بلا صوت، بلا حماية.
وحين تتآكل قيمة الإنسان، تتآكل قيمة الوطن داخله..
ولأن الجرح عميق، صار بعض اليمنيين يشمت في البلد ذاته وكأنه ينتقم من خصومه:
يمص دم أصابعه معتقدا أنه يمتص دماء أعدائه،
وهو في الحقيقة يمتص دمه هو…
ويدمر وطنه هو…ويعمق الجرح الذي بدأ من إحساسه بالعجز والظلم وانعدام الأفق..
الكلمة الأخيرة:
إعادة بناء اليمن لن تبدأ من السياسة بل من إعادة بناء الإنسان اليمني:
كرامته، أمله، قدرته على الحلم، ثقته بوطن يحتضنه لا يعاقبه..
فحين يستعيد اليمني قيمته، سيستعيد اليمن مكانته.
أما إذا بقي الجرح مفتوحا، فسيتحول الوطن ـ في وعي الناس ـ من وطن مجروح إلى وطن مباح..