أوصياء الفوضى: من عصابات الجريمة إلى هندسة الجغرافيا

Author Icon تركي القبلان

ديسمبر 23, 2025

لم يكن “ماير لانسكي” مجرد شخصية إجرامية في عالم العصابات بل تجسيدًا لوظيفة تقوم على تحويل الفوضى إلى مورد . لم يكن يقود العنف بقدر ما كان يديره ولم يكن معنيًا بالحسم بقدر ما كان حريصًا على الاستدامة . فقد أدرك مبكرًا أن الصراع إذا انتهى توقفت منافعه وإذا انفلت خرج عن السيطرة ، وأن القيمة الحقيقية تكمن في ضبط مستوى الفوضى لا القضاء عليها . هذه “الوظيفة” لا هذه “الشخصية” هي ما يعاد إنتاجه اليوم على نطاق جيوسياسي أوسع وبأدوات أكثر تعقيدًا وشرعية ظاهرية .

ما يجري في السودان واليمن لا يمكن فهمه باعتباره أزمات داخلية منفصلة أو إخفاقات محلية عابرة فثمة منطق واحد يحكم هذه الساحات ، يقوم على إدارة الصراع بدل حسمه وعلى تفكيك السيادة دون إسقاط الدولة بالكامل . تُترك الدولة قائمة شكليًا لتتحمل أعباء الفوضى بينما يُجرّد مركزها من القدرة على اتخاذ القرار ، ويُعاد توزيع السلطة الفعلية خارج مؤسساتها في مشهد يبدو فوضويًا في ظاهره لكنه منضبط في جوهره .

في هذا السياق تظهر وظيفة «أوصياء الفوضى» بوصفها “الامتداد الجيوسياسي” الحديث لنموذج “لانسكي” . هؤلاء لا يظهرون في الصفوف الأولى ولا يحملون السلاح ولا يرفعون الشعارات بل يعملون من خلف الستار لضبط إيقاع الصراع وحدوده ، ومن ثم انكاره  للتنصل منه أخلاقيًا وسياسيًا . يحددون متى يرتفع منسوب العنف ومتى ينخفض وما الذي يُسمح له أن يُحسم وما الذي يجب أن يبقى معلّقًا ، بحيث تظل الجغرافيا مفتوحة على التدخل والدولة عاجزة عن الاكتمال .

يمارس أوصياء الفوضى دورهم عبر فاعلين محليين يؤدون وظائف محددة: مليشيات، مجالس سياسية ناقصة السيادة ، قوى أمر واقع لا تُمنح شرعية كاملة ولا تُقصى نهائيًا . تُترك هذه الكيانات في منطقة رمادية تسمح باستخدامها عند الحاجة وإعادة ضبطها عند الضرورة ، دون أن تتحول إلى مشروع دولة قادر على فرض سيادته . فالهدف ليس بالضرورة إسقاط الدولة بقدر منعها من النهوض .

في السودان تحوّل الذهب من مورد وطني إلى وقود حرب وصار السلاح بديلًا عن السياسة .
لا يُسمح للصراع أن يبلغ خاتمته لأن نهايته تعني قيام سلطة مركزية تمتلك القرار والسيطرة على الموارد . وفي اليمن لم تعد قضايا الوحدة أو الانفصال هي جوهر الأزمة ، بل إدارة الموانئ وتشظية الجغرافيا وإدامة واقع الكيانات المتوازية: شرعية بلا قوة ، وقوة بلا اعتراف ، ودولة معلّقة بينهما .

هذا النموذج يرى في الدولة المستقلة عنصر إرباك وفي الفوضى المنضبطة أصلًا استراتيجيًا طويل الأمد . لذلك يُحاصَر كل مسار جاد نحو بناء جيش وطني موحد أو سلطة مركزية فاعلة ، ويُعاد تدوير الفاعلين القادرين على إبقاء الصراع ضمن حدود يمكن التحكم بها .

الفرق بين “ماير لانسكي التاريخي ونسخته الجيوسياسية الحديثة” هو فرق الحجم لا المنطق: لانسكي كان يدير عصابات وكازينوهات وشبكات غسل أموال ، أما أوصياء الفوضى اليوم فيديرون دولًا هشة، وموانئ، ومعادن، وشبكات تهريب، وعقودًا أمنية، وكل ذلك تحت عناوين الاستقرار ومنع الانهيار . الهدف في الحالتين واحد: لا نصر كامل ولا هزيمة كاملة بل وضع معلّق يمنع تشكّل دولة ذات قرار سيادي .

ومن هنا: فإن السؤال الجوهري ليس من يقاتل من؟ ولا من سينتصر على من؟ بل من يتولى الوصاية على الفوضى؟ ، ومن يحدد سقف الدم؟ ومن يملك المصلحة في أن تبقى الجغرافيا العربية عالقة بين الحرب والسلام دولة بالاسم وفوضى بالوظيفة؟.

كاتب سعودي

زر الذهاب إلى الأعلى