أوصياء الفوضى: من عصابات الجريمة إلى هندسة الجغرافيا
لم يكن “ماير لانسكي” مجرد شخصية إجرامية في عالم العصابات بل تجسيدًا لوظيفة تقوم على تحويل الفوضى إلى مورد . لم يكن يقود العنف بقدر ما كان يديره ولم يكن معنيًا بالحسم بقدر ما كان حريصًا على الاستدامة . فقد أدرك مبكرًا أن الصراع إذا انتهى توقفت منافعه وإذا انفلت خرج عن السيطرة ، وأن القيمة الحقيقية تكمن في ضبط مستوى الفوضى لا القضاء عليها . هذه “الوظيفة” لا هذه “الشخصية” هي ما يعاد إنتاجه اليوم على نطاق جيوسياسي أوسع وبأدوات أكثر تعقيدًا وشرعية ظاهرية .
ما يجري في السودان واليمن لا يمكن فهمه باعتباره أزمات داخلية منفصلة أو إخفاقات محلية عابرة فثمة منطق واحد يحكم هذه الساحات ، يقوم على إدارة الصراع بدل حسمه وعلى تفكيك السيادة دون إسقاط الدولة بالكامل . تُترك الدولة قائمة شكليًا لتتحمل أعباء الفوضى بينما يُجرّد مركزها من القدرة على اتخاذ القرار ، ويُعاد توزيع السلطة الفعلية خارج مؤسساتها في مشهد يبدو فوضويًا في ظاهره لكنه منضبط في جوهره .
في هذا السياق تظهر وظيفة «أوصياء الفوضى» بوصفها “الامتداد الجيوسياسي” الحديث لنموذج “لانسكي” . هؤلاء لا يظهرون في الصفوف الأولى ولا يحملون السلاح ولا يرفعون الشعارات بل يعملون من خلف الستار لضبط إيقاع الصراع وحدوده ، ومن ثم انكاره للتنصل منه أخلاقيًا وسياسيًا . يحددون متى يرتفع منسوب العنف ومتى ينخفض وما الذي يُسمح له أن يُحسم وما الذي يجب أن يبقى معلّقًا ، بحيث تظل الجغرافيا مفتوحة على التدخل والدولة عاجزة عن الاكتمال .
يمارس أوصياء الفوضى دورهم عبر فاعلين محليين يؤدون وظائف محددة: مليشيات، مجالس سياسية ناقصة السيادة ، قوى أمر واقع لا تُمنح شرعية كاملة ولا تُقصى نهائيًا . تُترك هذه الكيانات في منطقة رمادية تسمح باستخدامها عند الحاجة وإعادة ضبطها عند الضرورة ، دون أن تتحول إلى مشروع دولة قادر على فرض سيادته . فالهدف ليس بالضرورة إسقاط الدولة بقدر منعها من النهوض .
في السودان تحوّل الذهب من مورد وطني إلى وقود حرب وصار السلاح بديلًا عن السياسة .
لا يُسمح للصراع أن يبلغ خاتمته لأن نهايته تعني قيام سلطة مركزية تمتلك القرار والسيطرة على الموارد . وفي اليمن لم تعد قضايا الوحدة أو الانفصال هي جوهر الأزمة ، بل إدارة الموانئ وتشظية الجغرافيا وإدامة واقع الكيانات المتوازية: شرعية بلا قوة ، وقوة بلا اعتراف ، ودولة معلّقة بينهما .
هذا النموذج يرى في الدولة المستقلة عنصر إرباك وفي الفوضى المنضبطة أصلًا استراتيجيًا طويل الأمد . لذلك يُحاصَر كل مسار جاد نحو بناء جيش وطني موحد أو سلطة مركزية فاعلة ، ويُعاد تدوير الفاعلين القادرين على إبقاء الصراع ضمن حدود يمكن التحكم بها .
الفرق بين “ماير لانسكي التاريخي ونسخته الجيوسياسية الحديثة” هو فرق الحجم لا المنطق: لانسكي كان يدير عصابات وكازينوهات وشبكات غسل أموال ، أما أوصياء الفوضى اليوم فيديرون دولًا هشة، وموانئ، ومعادن، وشبكات تهريب، وعقودًا أمنية، وكل ذلك تحت عناوين الاستقرار ومنع الانهيار . الهدف في الحالتين واحد: لا نصر كامل ولا هزيمة كاملة بل وضع معلّق يمنع تشكّل دولة ذات قرار سيادي .
ومن هنا: فإن السؤال الجوهري ليس من يقاتل من؟ ولا من سينتصر على من؟ بل من يتولى الوصاية على الفوضى؟ ، ومن يحدد سقف الدم؟ ومن يملك المصلحة في أن تبقى الجغرافيا العربية عالقة بين الحرب والسلام دولة بالاسم وفوضى بالوظيفة؟.