‏الفسيفساء التاريخية: حقيقة وصفية لا حكم سياسي

Author Icon تركي القبلان

ديسمبر 29, 2025

تُثار في النقاشات حول الوحدة والانفصال في الصومال حجة مفادها أن المنطقة لم تكن كياناً سياسياً موحداً قبل الاستعمار الأوروبي ، بل فسيفساء من السلطنات والإمارات المستقلة . المشكلة تكمن في الانتقال غير المبرر من هذه الحقيقة الوصفية إلى استنتاج معياري يُلغي شرعية “المشروع الوحدوي” ويُضفي شرعية تلقائية على مطالب الانفصال .

الإشكالية الأساسية في هذا الاستدلال افتراضه أن الشرعية السياسية تُستمد حصرياً من سابقة تاريخية . لكن معظم الدول الحديثة تشكلت من فسيفساء سياسية سابقة: إيطاليا كانت ممالك متناحرة ، ألمانيا مئات الإمارات ، إسبانيا ممالك مسيحية متنافسة ، دولة الإمارات العربية المتحدة تشكلت من سبع إمارات . المشاريع الوطنية الحديثة لم تُبن على سابقة الوحدة التاريخية ، بل على اللغة المشتركة ، الثقافة الدينية ، المصالح الاقتصادية ، والأهم: الإرادة السياسية الجماعية .

صوماليلاند نفسها تستمد حدودها من المعاهدات الاستعمارية البريطانية (1884-1897) أي من نفس المنطق الاستعماري المرفوض كأساس للوحدة . الشمال كان مكوناً من سلطنات متعددة تفاوضت مع البريطانيين منفصلة . إذا كان غياب الوحدة التاريخية يُلغي شرعية الدولة فلماذا لا تنطبق الحجة على صوماليلاند ذاتها؟ لماذا تصبح الحدود الاستعمارية مقدسة للانفصال بينما الوحدة ما بعد الاستعمارية مصطنعة؟

الفارق بين المستوى الوصفي والمعياري ضروري هنا . وصفياً: لم تكن هناك دولة صومالية موحدة قبل الاستعمار . معيارياً: هذا لا يحسم السؤال السياسي المعاصر . الشرعية الحديثة تأتي من ثلاثة مصادر: الإرادة الشعبية الحالية ، الأداء الوظيفي ، والعدالة في توزيع السلطة . السؤال الحقيقي ليس “هل كان هناك الصومال موحد تاريخياً؟” بل “هل يريد الصوماليون اليوم العيش في دولة موحدة؟ ولماذا؟ وما البدائل؟”

الإحتجاج بنجاح صوماليلاند الوظيفي منذ 1991 ليس كافياً لتحقيق الإنفصال . إذ النجاح الوظيفي وحده ليس معياراً حاسماً للانفصال ، وإلا لانفصلت كتالونيا واسكتلندا وكردستان العراق . النجاح قد يُعزز الحجة لكنه لا يُنشئ الحق تلقائياً .

الظلم التاريخي الذي عاناه الشمال في عهد سياد بري حقيقي ، لكن السؤال: هل الانفصال الحل الوحيد؟ أم هناك بدائل كالفيدرالية الحقيقية ، النظام الكونفدرالي ، الضمانات الدستورية ، العدالة الانتقالية؟ التاريخ مليء بشعوب اختارت إعادة بناء العقد الاجتماعي بدلاً من الانفصال: جنوب أفريقيا ، رواندا ، أيرلندا الشمالية .

المسألة الأعمق تتعلق بالنظام الدولي القائم على استقرار الحدود . الاتحاد الأفريقي رفض تغيير الحدود الاستعمارية منذ 1964، لا حباً في الاستعمار بل خوفاً من الفوضى . الاعتراف بصوماليلاند سيفتح الباب أمام عشرات المطالب المماثلة في القارة وخارج القارة .

الحل الأكثر واقعية ليس الإصرار على وحدة قسرية فاشلة ، ولا القفز إلى اعتراف بالانفصال ، بل ترتيبات دستورية مرنة: كونفدرالية تمنح استقلالاً شبه كامل مع تنسيق محدود ، أو فيدرالية حقيقية بصلاحيات واسعة وضمانات صارمة .

الخلاصة: الفسيفساء التاريخية حقيقة لا تُنكر لكنها ليست حكماً نهائياً . التاريخ يُفسر الحاضر لكنه لا يُقيّد الإرادة الجماعية . السؤال الحقيقي: ما الذي يخدم مصالح الصوماليين اليوم؟ ما النظام الأقدر على تحقيق الأمن والعدالة والتنمية؟ الإجابة لا تأتي من التاريخ وحده بل من الإرادة الشعبية الحرة  والأداء الوظيفي المقارن ، والعدالة السياسية . الوصف التاريخي للفسيفساء صحيح لكنه غير كافٍ معيارياً لحسم مسألة تتطلب أكثر من مجرد النظر إلى الماضي .

كاتب سعودي

زر الذهاب إلى الأعلى