لماذا فشل (تيار التوافق النسوي) في إنقاذ المعتقلات وتحوله لواجهة براقة لتمثيل وهمي

التحقيقات
شيماء عمران + اليمني الجديد

في مشهد يعكس تعقيدات الصراع اليمني، شهدت أيام (14 - 15 - 16 أبريل 2023) تبادلاً للأسرى والمعتقلين بين أطراف النزاع في «اليمن».

هذه الصفقة شملت (887) شخصاً، وهي العملية التي تولت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» تنسيق مهامها اللوجستية، ووصفت بأنها ثاني أكبر صفقة تبادل منذ اندلاع الحرب، بعد الصفقة ألتي جرت في أكتوبر (2020) .

وشملت تبادل ما بين (1056 إلى 1081) معتقلاً وأسيراً، وكانت الأكبر حينها، وفي الحقيقة ان الخطوات جاءت بعد مفاوضات مكوكية رعتها قوى دولية، بهدف إحلال السلام في البلد الذي مزقته الحرب، حيث خلص الفاعلون إلى ضرورة تبادل جميع الأسرى، والمعتقلين، والمفقودين، والمحتجزين تعسفياً، والمخفيين قسرياً والموضوعين تحت الإقامة الجبرية، «التزاماً بإبداء حسن النية، وكمدخل لتعزيز مسار السلام».

صفقات التبادل وتغييب النساء

بصفقات تبادل محدودة تمت بوساطات محلية، خلال الفترات التي تلت ذلك، لم يفرج حتى اليوم عن أي معتقلين أو أسرى خارج نطاق تلك الصفقتين، رغم ان اولئك المحظوظون الذين شملتهم لا يشكلون، في أحسن الأحوال، أكثر من ربع العدد الفعلي للمعتقلين، وفي ظل هذه الأرقام، تبرز مفارقة مؤلمة، فبينما تقدر التقارير وجود ما لا يقل عن (2500 إلى 3000) امرأة يمنية خلف القضبان منذ بداية الحرب، وتشير بعض الاحصائيات إلى ان أكثر من (1700) امرأة تم اعتقالهن من قبل "جماعة الحوثي" بين عامي (2014 و2022)، مع إخفاء قسري لـ(291) منهن، ووجود (504) في السجن المركزي بـ"صنعاء" - الا أن قوائم المفرج عنهم في تلك الصفقتين لم تشمل حتى امرأة واحدة.

وهذا ما  يكشف عن  استبعاد متعمد للنساء من مبادرات بناء الثقة، ويكشف عن تحيز عميق الجذور ضمن آليات حل النزاع، وهذه الحقيقة بدورها تقوض مصداقية عملية السلام نفسها، وتعزز الهياكل الأبوية حتى في سياق العمل الإنساني.

قمم نسوية، صدى مزيف

لطالما كانت قضايا النساء في "اليمن" محط اهتمام مختلف الاوساط، ويتضاعف هذا الاهتمام في "ديسمبر" من كل عام، تزامناً مع انعقاد "القمة النسوية السنوية"، ولنا في الاهتمام الاعلامي الواسع الذي حظيت به القمم النسوية الـ(7) المنعقدة خلال السنوات الـ(7) الماضية، دليلاً قوياً على قدرة النساء على إحداث تأثير كبير لو توحدت إرادتهن، كما الحرب، بكل قسوتها، خلقت بيئة دفعت الكثير من النساء إلى تشكيل شبكات وتحالفات نسوية كثيرة، بعضها جديد، وبعضها امتداد لجهود قديمة، تسعى جميعها {أو تدعي ذلك} إلى تمكين المرأة، وايصال صوتها إلى مراكز صنع القرار، وإشراكها في المفاوضات وعملية بناء السلام، وتعزيز صوتها في المحافل الدولية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ذلك يحدث فعلاً؟، للأسف المتابع للوضع عن كثب يدرك أن الإجابة هي "لا"، فرغم الصدى والضجيج الاعلامي الذي صاحب ظهور بعض تلك الكيانات الا ان جميعها اكتفت برفع الشعارات، في حين ضلت تراوح مكانها، بل وتحولت اجنداتها بما يتوافق ورغباط ومصالح واهواء القائمات عليها، وهنا يبرز سؤال أكثر إلحاحاً: ما هي اسباب الفشل؟ ومن المسئول؟! ومالاهداف الكامنة وراء ذلك؟!، ومن هنا برزت الحاجة لهذا التقرير الذي لا يسعى لتقديم إجابات جاهزة، بقدر ما يهدف إلى أن يكون بمثابة نافذة يطل منها المهتمون على بعض الجوانب الخفية التي من شأنها ان ساعدهم في الوصول إلى تلك الإجابات.

خفايا تيار التوافق النسوي

مثل الاعلان عن تأسيس واشهار "التيار الوطني للسلام"، في (20 فبراير 2025)، خطوة هامة جاءت تتويجاً لـ(40) سنوات من العمل المتواصل تحت اسم "تيار التوافق الوطني"، وللغوص في عمق هذه القصة، لا بد من العودة إلى بعض الأحداث المحورية التي سبقت هذا الإعلان، ففي (أبريل 2021)، أعلن عن تأسيس "تيار التوافق الوطني" كتكتل سياسي وطني يهدف إلى إنهاء الحرب في "اليمن"، يضم نخبة من ابرز الشخصيات اليمنية الوطنية يمثلون مختلف التيارات والتخصصات والخبرات العلمية داخل "اليمن" وخارجه، وقبل ان يحقق اي شيء من اهدافه، سرعان ما انبثق عنه "تيار التوافق النسوي" بشكل أثار شكوكاً واسعة حول شرعية "التيار الوليد" خصوصا انه لم يدرج ضمن الهيكل التنظيمي الرسمي لـ"تيار التوافق الوطني"، ولم تكن المشكلة في عدم قانونية هذه الخطوة فحسب، بل بدا واضحاً أن الهدف منها هو احتكار تمثيل النساء، خاصةً وأنه لم يكن موجوداً سوى كمجموعة على "تطبيق واتساب" فقط، هذا التأسيس غير الرسمي وغير المنظم والمهيكل مثل عاملاً حاسماً لفهم كيفية تمكين احتكار التمثيل وغياب المساءلة لاحقاً.

قيادات وهمية ومصالح عائلية

وعقب الاعلان عن هذا التيار الوهمي المنشق، هرعت عدد من الشخصيات النسوية اللاتي نصبن انفسهن قيادة له، ومن خلف شاشاة الهواتف، إلى استقطاب عدد من النساء اللواتي سبق إضافتهن إلى مجموعات نسوية سابقة، وقمن بضمهن إلى المجموعة التي روجن لها على أنها ستعمل من أجل "حقوق النساء والانتصار لقضاياهن"، اما الطامة الكبرى فلم تكن فقط في أن (3) من أبرز قيادات هذا التيار الوهمي هlكن أسماء معروفة، بل في وجود صلة قرابة ومصاهرة من الدرجة الأولى بينهن، تقول إحدى العضوات السابقات: "المصالح العائلية حوّلت التيار إلى أداة لتحقيق مكاسب شخصية، بينما حرمت أغلب العضوات من أي دور فعلي"..!!

بين النفوذ وإلسعي للشهرة

وفي الحقيقة، لم يكن ينقص أي واحدة من هذه القيادات شيء، لانهن ومنذ زمن طويل ناشطات وفاعلات ومعروفات في الساحة اليمنية، ولديهن شبكة علاقات واسعة، لكن عاملين أساسيين جعلا هذا "التوافق النسوي الوهمي" ذو أهمية قصوى لهن: الأول: هو التأثير الكبير لـ"تيار التوافق الوطني" بحكم ضمه لخبرات وفاعلين معروفين، والثاني أن سمعتهن كانت تراجعت حينها، نتيجة تسرب معلومات عن تورطهن في عمليات فساد سابقة، اما الامر الاكثر غرابة فهو أنهن لم يستخدمن هذا الكيان الجديد، حتى وإن كان وهمياً، لتحسين صورتهن، بل كسبيل لتحقيق المزيد من المكاسب الشخصية بطرق ملتوية وغير مشرعة.

استغلال النفوذ والتمويل

وبالفعل لم يمر الكثير من الوقت حتى استطاعت تلك القيادات، أن يحضرن ويشاركن باسم "التيار الوهمي" في محافل عديدة، كان أحدها مشاركتهن في "مشاورات الرياض" (رمضان 2023)، والتي بموجبها حصلت بعضهن على إقامات دائمة ورواتب من "الحكومة السعودية"، وكما يروي عضو سابق (ن.س): "فإن (70%) من تمويلات الأمم المتحدة حوِّلت إلى حسابات شخصية لتمويل سفر القيادات إلى مؤتمرات فاخرة"، كما قمن بتقديم قوائم مجهولة بأسماء نساء (رفضن أكثر من مرة الإفصاح عنها لعضوات التيار) إلى الأطراف المتنفذة في "شمال وجنوب اليمن"، وكذلك إلى مكتب "المبعوث الأممي" و"اللجنة الخاصة"، بهدف تحقيق مكاسب خاصة، والحصول على مناصب لهن ولاقربائهن، والمؤسف ان كل ذلك تم دون علم معظم أعضاء وقيادات "تيار التوافق الوطني"، وبطريقة سرية ومضللة.

صراعات داخلية وتغييرات شكلية

هذا الوضع أدى إلى ظهور خلافات حادة بين قيادات "التيار الوهمي" حول الأموال المكتسبة، الامر الذي تسبب في انشقاقات داخلية عميقة، والتي بدورها قادت الى تغييرات على الأسماء والتحالفات، حيث تحول الاسم من "تيار التوافق الوطني النسوي" إلى "نساء تيار التوافق الوطني"، وهذا التغيير في الاسم، رغم أنه قد يبدو مجرد تعديل شكلي، إلا انه يعكس محاولة لإدارة تداعيات الفضائح الداخلية أو تقديم صورة جديدة للكيان، دون معالجة الأسباب الجذرية للفساد وغياب التمثيل الحقيقي.

الانتهازية والفساد

إن الانتهازية والفساد الداخلي في الحركات النسوية، خاصة في ظل اوضاع شائكة ومعقدة كـ"اليمن"، يعدان سرطاناً يهدد مصداقية العمل الجماعي، ويحولان النضال من أجل العدالة إلى ساحة لصفقات النخب، وهذه الإشكالية ليست حكرا على "اليمن" وحسب، بل انها تتكرر في حركات اجتماعية كثيرة، لكن حدة الحرب وغياب المؤسسات الرقابية يفاقمانها بشكل كبير، وهذا ما يجعل الجهود الإنسانية والدعوية تتحول إلى مشاريع ذاتية الخدمة.

النخب واحتكار التمثيل

جزء من المشكلات التي تعاني منها التيارات والشبكات النسوية يعود إلى وجود نخب (غالباً من المدن الكبرى أو العائلات البارزة) تقدم نفسها كـ"الوجه الشرعي" الذي يمثل النساء، وتجعل هذا التمثيل حكراً عليها، تستغل هذه النخب شبكات العلاقات الدولية كـ"منظمات الأمم المتحدة" و"السفارات" لتعزيز نفوذها الشخصي، وهذا بدوره يقود الى إقصاء الناشطات المعروفات والقادمات من الأرياف أو تلك القادمات من الطبقات الفقيرة، رغم عملهن الميداني الفعال، وهذا النمط من "الهيمنة النخبوية" يتفاقم بسبب تفضيل المانحين الدوليين للتعامل مع "وجوه معروفة" أو منظمات ذات هياكل دولية، مما يؤدي إلى تدفق أكثر من (70%) من المساعدات عبر كيانات دولية ويزيد من اعتماد المنظمات المحلية على الوسطاء.

غياب الرقابة والديمقراطية

غياب المؤسسات والجهات الرقابية والمحاسبية سواء كانت داخلية او خارحية، رسمية او مستقلة - تعد اشكالية كبيرة، فبدونها تتحول بيئة العمل تتحول الى ساحة للعبث والتلاعب من قبل الفاسدين واصحاب الاطماع الشخصية، ونتيجة لذلك يفلت كل اللصوص من العقاب وتترسخ لدى الجميع ثقافة "الكل يسرق، فلماذا لا أسرق؟"، بالاضافة الى ذلك فإن غياب آليات ديمقراطية أو مؤسسية لاختيار من يمثل النساء، يتيح لبعض الأفراد أو المجموعات الصغيرة احتكار التمثيل دون تفويض جماعي حقيقي، وهذا للأسف ما شهدته "تيارات النساء"، حيث استغلت تلك القيادات تدهور الاوضاع في "اليمن" وانهيار المؤسسات وغياب الشفافية والرقابة والمساءلة لتحقيق رغباتهن واطماعهن الشخصية.

انهيار الدولة والتمويل المشروط

المنظمات في ظل هكذا اوضاع تتحول أداوات للكسب الاقتصادي "جمع التمويل" أكثر منها أدوات للتغيير. يضاف إلى ذلك التمويل الدولي المشروط، إذ يفضل "المانحون" التعامل مع "وجوه معروفة" تتكلم بلغتهم، حتى لو كانت غير ممثلة للنساء فعلياً على الأرض، وكما ان اعتماد المنظمات المحلية على التمويل الخارجي، الذي غالباً ما يكون قصير الأجل وموجهاً نحو مشاريع محددة، يدفع الكثير منها لتكييف أجنداتها وفقاً لأولويات المانحين، حتى لو كانت تلك الأولويات لا تتوافق مع الاحتياجات الجذرية للمجتمع.
القمع وفرض القيود، شهادات مريرة
في مثال صارخ على هذا الاحتكار، قامت قيادة "التيار الوهمي" بإضافة نحو (263) امرأة إلى "مجموعة واتساب" مغلقة، حيث منعن من النقاش أو طرح الأسئلة، تقول احدى العضوات(ف.خ): "كنا نجبر على التوقيع على بيانات دون قراءتها، كأننا دمى في مسرحياتهن"، لاحقاً، غادرت أكثر من (150) عضوة احتجاجاً على تحول التيار إلى ساحة لصراعات النفوذ، تقول احدى العضوات المنسحبة (ز.ع): "صرنا نرى الفساد في كل اجتماع، السلام غاب، وحل محله الجشع"، هذه الشهادات الصريحة تسلط الضوء على عملية القمع وغياب الديمقراطية الداخلية والشفافية.

فقدان الثقة وانهيار المصداقية

وفق تقرير لـ"مركز صنعاء للدراسات"، فإن (65%) من اليمنيين فقدوا الثقة في المنظمات النسوية بسبب فضائح الفساد، وحتى لو افترضنا أن مثل هؤلاء القيادات لديهن نوايا طيبة، فإن غياب الإطار الحاكم يؤدي حتماً إلى الاستقطاب، وبالتالي الصراع على الزعامة، وهذا بدوره يجعل التمثيل الدولي يضعف التضامن الداخلي، ويؤدي إلى التبعية للتمويل، وبالتالي توجيه المشاريع وفقاً لرغبة الممولين "مشاريع جذابة إعلامياً" بدلاً من مشاريع مستدامة، كما يؤدي ايضاً إلى الاستنزاف، حيث يهدر الجهد في مواضيع وصراعات جانبية بدلاً من العمل الميداني الحقيقي.

العنف ضد المرأة والقاصرات

تتعرض المرأة اليمنية لواقع مرير من الانتهاكات والمعاناة، فوفقاً لتقرير صادر عن "صندوق الأمم المتحدة للسكان" (2022)، تعرضت أكثر من (4) ملايين امرأة وفتاة لشكل من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، كما تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من (6.2) مليون امرأة وفتاة معرضات لخطر متزايد لأشكال مختلفة من العنف، وتزداد هذه التقديرات لتصل إلى (7.1) مليون امرأة وفتاة سيحتجن إلى خدمات الوقاية من العنف القائم على النوع الاجتماعي والتصدي له في عام (2023). يشمل ذلك الضرب، التحرش، الإهانات، والحرمان من الحقوق الأساسية، كما ارتفعت نسبة زواج الفتيات دون (18) سنة إلى (65%) في بعض المناطق، وفقاً لـ"منظمة اليونيسف" (2021)، حيث يتم تزويجهن بدافع حمايتهن من الفقر أو النزاع، أو كوسيلة لتسوية النزاعات بين القبائل.

حرمان وتهميش

وبحسب "اليونيسف" أيضاً، فإن (76%) من الفتيات في المناطق الريفية غير ملتحقات بالمدارس، وتجاوزت نسبة تسرب الفتيات من التعليم (70%) في الفئة العمرية من (5-14) عاماً، في حين توفيت آلاف النساء منذ بداية الحرب بسبب عدم توفر الرعاية الصحية أثناء الولادة "نقص المستشفيات والأدوية"، وتسجل "اليمن" أعلى معدلات وفيات الأمهات في منطقة "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، حيث تموت امرأة كل ساعتين أثناء الولادة، والى ذلك وثقت "هيومن رايتس ووتش" (2022) عشرات الحالات للاغتصاب والاستغلال الجنسي، خاصة في مخيمات النزوح، معظم تلك الحالات لا تبلغ او تشتكي بسبب الوصمة الاجتماعية وغياب الحماية القانونية.

انتهاكات الحرب

ومن أبرز صور الانتهاكات التي تتجرع مرارتها المرأة اليمنية منذ عقد كامل: "العنف الجنسي والاغتصاب كسلاح حرب، والتجنيد القسري" حيث يتم إجبار النساء على العمل كـ"جواسيس" أو إعداد الطعام لـ"المقاتلين"، الى جانب الحرمان من الحركة، عبر فرض قيود على تنقل النساء دون "محرم" (خاصة في مناطق سيطرة "الحوثيين")، بالاضافة الى إغلاق الطرق أمام النساء النازحات، والتهميش الاقتصادي المتمثل بمنع النساء من العمل أو امتلاك الأراضي، وحرمان الأرامل من الميراث.

تحديات المناصرة النسوية

وفي ظل هذا الوضع المأساوي، تبرز تحديات كبيرة تواجه كل من يريد العمل لصالح النساء والدفاع عنهن، منها: "نقص الإبلاغ حيث أن (90%) من الحالات لا يتم الابلاغ عنها خوفاً من الانتقام أو الوصمة، الى جانب غياب الآليات القانونية خصوصا في ظل انهيار النظام القضائي وانتشار المحاكم التابعة لـ"الميليشيات"، بالاضافة الى التعتيم الإعلامي إذ يتم منع الصحفيين والصحفيات من تغطية الانتهاكات، كما تخضع وسائل التواصل الاجتماعي للمراقبة في المناطق التي يسيطر عليها "الحوثيون".

فوضى الكيانات النسوية

ومن ابرز الامثلة الصادمة على حالة الفوضى التي تشهدها الكيانات النسوية: أن إحدى قيادات ذلك "التيار الوهمي" المسمى "تيار التوافق النسوي" هي نفسها مؤسسة ورئيسة لكيانين آخرين غير فاعلين على الأرض ولا يتبنيان أي قضايا نسائية حقيقية، ومع ذلك يتلقيان منحاً كبيرة يفترض أن تذهب لصالح مناصرة قضايا النساء، كما ان أغلب الناشطات اللائي تم استقطابهن لعضوية ذلك التيار هن أعضاء في تكتلات وشبكات نسوية متعددة؟.
وتعود اسباب هذه الفوضى، إلى  اشكالية عميقة تعيد تشكيل مشهد العمل النسوي في "اليمن" عامة وتتمثل في سهولة تأسيس "منظمات المجتمع المدني" وتحويلها إلى ملكية فردية، ففي ظل غياب الآليات الرقابية، صار بإمكان أي شخص - بضغطة زر - إنشاء كيان يدعي تمثيل النساء، دون تفويض جماعي حقيقي أو مساءلة، والأمثلة عديدة منها: ان ناشطة واحدة تتحكم في ثلاثة كيانات نسوية، وان عضوات ينتمين إلى أكثر من عشر منظمات، في مشهد يختلط فيه التمثيل الحقيقي بالاحتكار الشخصي.

تواطؤ دولي

هذه الفوضى الناتجة عن الحرب وغياب الدولة وتواطؤ المجتمع الدولي، التي سمحت بوجود عشرات المنظمات المتراكبة، انتجت للاسف ثقافة تعددية وهمية، اذ انها تخفي وراءها حالة من الصراع والتنافس على الموارد والمنح الدولية، والصراع على الزعامة، والتضاربا في الأولويات، سيما ان التمثيل هنا لا يقاس بمدى التأثير في حياة النساء العاديات، بل بعدد الحضور في المؤتمرات الدولية، أو حجم التمويل المكتسب.

تمكين "الحوثيين"

الامر الصادم هو ان المجتمع الدولي، للاسف ربما ساهم عن غير قصد، في التسويق لمشروع "الحوثيين" عن طريق بعض هذه الأصوات المدنية، التي تدعو للسلام، في حين ان الكثير من تلك التيارات متواطئ مع "الحوثيين" ويعملن في سبيل خدمة مشروعه، وذلك تحت مظلة بناء السلام وإنهاء الحرب، حيث تمكنت من خلال تبنيها لهذا الخطاب من استقطاب الكثير من الأسماء، سواء لشخصيات نسائية بارزة أو رجال لهم أسماء معروفة، وبعضهم قادة سياسيون ومناضلون ومن القاعدة المجتمعية المتنوعة حقوقياً وثقافياً وإعلامياً وسياسياً واقتصادياً وحتى قبلياً، كما استغلت أيضاً حاجتهم الملحة لاستعادة الدولة واستقرار الأوضاع، لضمهم الى قوائمها والتحدث باسمهم، الامر الذي دفع الكثيرين منهم للمسارعة في الانسحاب أو الاعتذار بمجرد اكتشافهم لحقيقة ذلك التيار ومشروعه الزائف.
و تخلت هذه الكيانات عن المشروع الوطني والحقوقي والانساني، وتبنين رؤية "مليشيا الحوثي" لتصبح بمثابة جسر لتوصيل رؤى وتوجهات ومطالب "الحوثي" للمجتمع الدولي وتحسين خطابه المشوه، ولنا في تصريح السفير البريطاني الأسبق في "اليمن"، "إدموند براون"، خير دليل على صحة هذه الحقائق، حيث اكد بصريح العبارة أن المجتمع الدولي وقع تحت تأثير الأحكام المسبقة وسوء الفهم، بما في ذلك "تقديس النشاط الإنساني على نحو غير نقدي"، وأن منظمات مثل "أوكسفام" و"العفو الدولية" "تعاونت مع دوائر حقوق الإنسان لدعم هذا اللوبي الإنساني الذي يقوده مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة".

إخراس الأصوات المطالبة بالحقوق

اما الامر المحزن والمؤسف فهو انه عندما تطالب الأصوات الحقيقية بالحقوق المتوقفة نتيجة الأوضاع الراهنة، أو تتحدث عن النساء المنتهكات أو المعتقلات، يتم تخوينها وترهيبها واتهامها بالخيانة الوطنية وزعزعة الأمن، خيث يزعمن أن تلك المطالب تعرقل عملية السلام، وتقود الى اطالة امد الحرب، وفي الواقع ان كل ذلك عبارة عن تكتيكات الهدف منها إلى إسكات الأصوات الناقدة وتشويه سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان، مما يضمن استمرار الوضع الراهن.
النضال النسوي، مسؤولية جماعية
لكن النقد لا يكتمل دون فهم السياق، ففي بيئة تحاصرها الحرب، قد يكون إنشاء "منظمة مجتمع مدني" - حتى لو كانت هشة - محاولة للبقاء الاقتصادي أو السياسي، وليس مجرد فساد مقصود. فالدولة الغائبة تدفع "الناشطات" إلى اختراع أدوار بديلة، والتمويل الدولي - رغم تشوهاته - يبقى شريان حياة لمشاريع الإغاثة، ومع ذلك، يظل السؤال الأخلاقي قائماً: متى يتحول تمثيل المهمشين إلى وسيلة لإعادة إنتاج التهميش؟، هذا السؤال هو بوابة الحقيقة، فلا قيمة لتمثيل بلا تفويض جماهيري، ولا جدوى من كيانات تتحدث باسم المرأة دون أن تلامس يوماً عمق معاناتها. الحل لا يكمن في مجرد اختراع كيان جديد، بل في تفكيك الأنظمة التي حوّلت المأساة إلى سوق، والحقوق إلى صفقات، والعمل النسوي إلى شركة خاصة تُديرها "النخب".

نحو نضال حقيقي

لن يتحقق النضال النسوي الحقيقي إلا حين نعيد تعريف "التمثيل" من كونه امتيازاً شخصياً إلى مسؤولية جماعية ثقيلة، وحين نعيد ربط الشرعية بالواقع الميداني، لا بالشبكات الاجتماعية، وحين تُخضع "النخب" للمساءلة من قبل القواعد النسوية التي تدعي تمثيلها، فليس من البطولة في شيء أن نصنع من الحرب سلماً للارتقاء الشخصي والمنافع الذاتية، ولا من العدالة غنيمة لمن يرفع شعارها، بل البطولة الحقيقية تكمن في البقاء صادقاً وسط هذا الضجيج العارم، وأن نعيد النضال إلى موضعه الأصيل: قلب الحياة، لا مجرد هامش في المؤتمرات.

بين الأضواء ودهاليز الإهمال

في كل عام، يتكرر المشهد السنوي ذاته، لافتات أنيقة تزين واجهات القمم النسوية، وكلمات رنانة تتردد على المنصات، وشعارات زاهية عن "تمكين المرأة" و"دورها في بناء السلام". لكن في الجانب المعتم من الصورة، تبقى النساء المعتقلات خلف القضبان بلا ذكر، بلا صوت، وبلا تضامن حقيقي يذكر. المفارقة هنا ليست فقط في الصمت، بل في أنه لم تُدرج حتى امرأة واحدة ضمن صفقات التبادل التي أبرمتها الأطراف المتحاربة، رغم الضجة الإعلامية التي صاحبت كل مؤتمر، وكل تصريح يتغنى بـ"المرأة شريكة السلام".

واجهات فاقدة للروح

لماذا غابت أسماء السجينات؟ ولماذا لم يكن الإفراج عنهن في طليعة المطالب الحقوقية؟ لا جواب يلوح في الأفق إلا في فوضى تمثيل نسوي هش، تحول من نضال جمعي إلى تكتلات فردية، تتقاسم النفوذ وتستثمر القضايا لتحقيق المكاسب الشخصية. لقد غاب صوت المعتقلات لأن من يفترض بهن الدفاع عنهن انشغلن في صراعات على التمويل، وحسابات داخل شبكات النفوذ، ومنافسات لا تمس واقع النساء العاديات في شيء، تحولت العديد من المنظمات إلى واجهات فاقدة للروح، تُدار كما تدار الشركات الصغيرة، حيث يتركز القرار في يد واحدة، والتمويل غاية لا وسيلة، والشعارات مجرد حجاب يخفي خواء المشروع برمته.
وما يزيد المشهد بؤساً أن تغييب هذه القضايا لا يتم فقط من قبل الأطراف المعرقلة للسلام فحسب، بل في كثير من الأحيان بأيدي ناشطات نسويات، قمن باستبدال القضايا الكبرى بمطالب نخبوية وسطحية، لا تلامس الجراح المفتوحة في جسد "المجتمع" اليمني، في ظل هذا الاختزال، ترفع بيانات تضامن فردية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، في قضايا لا تمثل أولوية ملحة، بينما تهمل معاناة آلاف النساء اللواتي تُنتهك كرامتهن على قارعة الطريق، خصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة "الحوثيين"، حيث تحولت أجساد النساء إلى ساحات للإذلال، وحرياتهن إلى رهائن دائمة.

تناقض صارخ

لقد كشفت الحرب، بما فيها من فظاعة، التناقض الصارخ: في الوقت الذي تُنظم فيه المؤتمرات في فنادق (5) نجوم، وتُحجز فيه تذاكر الطيران لحضور لقاءات السلام، تقبع نساء في "الزنازين"، بلا دواء، ولا محاكمة، ولا أدنى اهتمام. وفي "مخيمات النزوح"، هناك نساء يقاتلن من أجل البقاء، ويُحاصرن بين الجوع والوصمة والحرمان، دون أن يجدن مكاناً لهن في جدول أعمال أي مؤتمر أممي، تلك المفارقة ليست مجرد خلل في التنسيق أو أولوية أُسيء ترتيبها، بل هي معضلة أخلاقية، تعري فشل "النخب" في تحويل الاهتمام العالمي إلى فعل ملموس على الأرض، وفي ترجمة الموارد المتاحة إلى عدالة حقيقية. فالتمثيل الحقيقي لا يقاس بعدد المشاركات في الورش الدولية، بل بمدى اختراق الصمت، وتمثيل الفئات غير الممثلة، وإعلاء أصوات المهمشات لا المتصدرات.

زر الذهاب إلى الأعلى