التطريز اليمني: نقوش تحكي التاريخ من خلال خيوط النساء
الأخبار المحلية
بين إبر الخياطة وخيوط الحرير، نسجت أفراح محمد، المرأة الأربعينية وأم لأربعة أبناء، حكايتها الخاصة مع الحرفة التي التصقت بذاكرتها منذ الطفولة، نشأت أفراح في بيت امتلأ بروح الإنتاج، حيث تناقلت الجدات والأمهات سرّ التطريز اليمني من جيل إلى آخر، لتصبح هذه الحرفة إرثًا عائليًا أصيلًا متجذرًا في وجدانهن.
واليوم، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من العمل في التطريز، تُعد أفراح واحدة من أبرز الحرفيات اليمنيات اللواتي حملن على عاتقهن مهمة صون الأزياء التقليدية من الاندثار. لم تكتفِ بالحرفة فحسب، بل كسرت قيود الانقطاع عن التعليم فعادت إلى مقاعد الدراسة بعد عشرين عامًا، لتكمل الثانوية، ثم التحقت بكلية الإعلام – قسم العلاقات العامة، لتفتح لنفسها ولحرفتها أفقًا جديدًا.
في عام 2014، أطلقت أفراح مشروعها "التطريز اليمني" كخطوة لإنعاش الوضع المعيشي لعائلتها ومجتمعها الصغير. تستعيد أفراح تلك اللحظة بقولها: "كان حبي وشغفي بعملية التوثيق ونقل الحرفة من جيل إلى آخر هو الدافع وراء فكرة أن يكون لي مشروع خاص بالتطريز اليمني".
بدأ المشروع من داخل أسرتها المنتجة التي تضم أكثر من 25 امرأة، عملن معًا على توثيق الغرز القديمة وتطوير نقوش جديدة، فحققن حضورًا لافتًا في البازارات والمهرجانات والمعارض، وحصلن على دعم من بعض المنظمات في التسويق. غير أن الحرب ألقت بظلالها الثقيلة، لتتوقف أنشطة المشروع بعد انسحاب المنظمات وغياب أماكن العرض، ما أدى إلى توقف شبه تام خلال العامين الأخيرين.
إشكالية الانضمام للغرفة التجارية
توضح أفراح أن من أبرز التحديات التي واجهت مشروعها، حرمانها من الانضمام إلى الغرفة التجارية، رغم محاولاتها المتكررة، الأمر الذي حال دون استفادتها من فرص السفر والتسويق الخارجي.
تقول: "كان يمكن للانضمام إلى الغرفة أن يفتح أمامنا بابًا للترويج لمنتجاتنا في الخارج، لكن المشاريع الناشئة غالبًا ما تُحرم من هذه الفرص".
من جانبها، نفت فاطمة الصلوي، ممثلة الغرفة التجارية والصناعية بأمانة العاصمة، وجود أي تمييز ضد المشاريع الصغيرة أو الحرفية. وقالت: "نحن في الغرفة التجارية نرحب بكل المشاريع النسائية ونقدم لهن التسهيلات والدعم الفني والإداري والاستشارات القانونية مجانًا، كما تمنح العضوية وفق نوع السجل التجاري، مع تخفيض بنسبة 50% لرسوم الاشتراك للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، بينما تُمنح الأسر المنتجة والمشاريع الريادية عضوية مجانية في مركز ريادة الأعمال".
وأضافت الصلوي: لا يتم رفض أي مشروع ما دام مستوفيًا لشروط العضوية، التي تتطلب وجود سجل تجاري أو ريادي وبطاقة شخصية وصور شخصي. وفي حال لم يتوفر ذلك، نقوم بإرشاد صاحبات المشاريع وتوجيههن نحو استخراج السجلات عبر الجهات المختصة بوزارة الصناعة والاستثمار.
وتؤكد على أن الغرفة هي بيت التجار، رجالًا ونساء، ودورها يتمثل في تمكين المشاريع من النمو والانفتاح على الأسواق.
الدلالات البصرية والسرديات الرمزية للنقوش والتطريز التقليدي اليمني
تؤكد الباحثة تهاني المخلافي أن المرأة اليمنية ليست مجرد حارسة للتراث بل هي أيضًا صانعة وحكّاءه، تنقل الغرز والرموز كما تعلمتها من أمهاتها وجداتها، وتحافظ على دقتها ومعانيها عبر الأجيال. فالتطريز اليمني ليس حرفة فقط، بل لغة بصرية وذاكرة جمعية تسرد من خلال الغرز والألوان قصص المجتمع وهويته.
وتشير المخلافي تتنوع الغرز بين السلسلة الأكثر انتشارًا، والتثبيت الخاصة بالخيوط المعدنية، والساتان التي تبرز الألوان، وغرزة الصليب ذات الطابع الهندسي، إضافة إلى غرز الحواف التي تحدد الأشكال. أما النقوش، فتشمل الزخارف الهندسية كالمثلثات والنجوم، والنباتية مثل الأزهار والسنابل، والرمزية كالعيْن والهلال. وتختلف أنماطها باختلاف البيئات؛ ففي تهامة تسود الخطوط الحادة التي ترمز إلى الموج والحركة، بينما يغلب الطابع الهندسي المنظم على الأزياء الصنعانية، وتطغى الزخارف النباتية على أزياء إب وتعز، في انعكاس لخصوبة البيئة الزراعية.
وتقول المخلافي إن الألوان تحمل دلالات رمزية؛ فالأحمر يعكس الفرح والحياة، الأخضر البركة، الأزرق والأسود الحماية والوقار، والذهبي المكانة الاجتماعية.
كما تؤكد على أن النقوش ترتبط بالسرديات الاجتماعية؛ فالتطريز المتقن يُعبّر عن مكانة مرموقة أو مناسبة خاصة كالزواج، بينما تعكس البسيطة الحياة اليومية. وتكشف النقوش أيضًا عن الانتماءات القبلية، إذ تحمل كل منطقة أو جماعة بصمتها الخاصة التي تُعد بمثابة هوية مرئية مميزة.
من الناحية الدينية، تقول المخلافي تجسد بعض الزخارف قيّم الحماية والسلام، أو رموز الطهارة والصفاء، في امتداد لإيمان الناس وتجسيده في تفاصيل حياتهم اليومية. وتاريخيًا، يُظهر التطريز التأثيرات الثقافية والتجارية التي دخلت اليمن عبر الأصباغ الطبيعية أو الأنماط الوافدة بفعل الهجرة والتبادل التجاري.
وهكذا يغدو الثوب اليمني وثيقة بصرية حية، توثق المكانة الاجتماعية والدينية والقبلية، وتحمل في خيوطه تاريخًا طويلًا من الهوية والمعتقدات والقيم المتوارثة.
معوقات تسجيل الأزياء اليمنية ضمن التراث العالمي
يواجه توثيق الأزياء والنقوش اليمنية وإدراجها ضمن قائمة التراث العالمي جملة من المعوقات المعقدة، تبدأ بالوضع الأمني والسياسي غير المستقر الذي يحول دون وصول الباحثين إلى القرى والمناطق التي ما زالت تحافظ على الأزياء التقليدية، وهو ما يعيق جمع الوثائق والصور والمعلومات الدقيقة. كما يفاقم غياب الدعم الرسمي والمؤسسي من قبل الجهات المختصة، إلى جانب نقص التمويل المخصص للمشاريع البحثية والتوثيقية، من صعوبة تنفيذ مبادرات جادة في هذا المجال.
وتشير الباحثة المتخصصة في التراث المخلافي إلى أن ضعف الوعي المجتمعي يمثل عائقًا آخر، حيث يُنظر في بعض المناطق إلى التطريز التقليدي على أنه مجرد زينة أو حرفة يومية بلا قيمة تاريخية، مما يقلل من مشاركة المجتمع في جهود التوثيق ونقل المعرفة للأجيال الجديدة. كما أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة تدفع الأسر للتركيز على كسب قوتها اليومي بدلاً من الحفاظ على الأزياء التقليدية أو تعليمها للأبناء. وتضاف إلى ذلك التهديدات المادية، مثل الاستخدام المتكرر للأقمشة أو سوء التخزين، فضلًا عن تأثير العوامل المناخية، وهو ما يؤدي إلى تدهور الأزياء واندثارها بمرور الوقت.
وفي هذا الإطار، أوضحت أفراح محمد أنها شاركت في تجربة عملية للتوثيق قبل سنوات بالتعاون مع مؤسسة بيتنا، بدعم من شركة كمران، حيث تم توثيق 12 فستانًا من مناطق مختلفة، بينها التهامي والخولاني والحرازي والتعزي.
غير أن المشروع واجه تحديات كبيرة بسبب تكلفته العالية، إذ يتطلب توثيق الفستان الواحد ما يزيد على 1500 دولار، نتيجة الجهد والوقت والمواد اللازمة، إضافة إلى أكثر من 12 ساعة عمل يوميًا لتوثيق النقوش بدقة.
وتؤكد أن هذه التجربة كانت الأساس الذي انطلقت منه مبادرة رفع ملف لليونسكو طلبًا للدعم لتسجيل الأزياء اليمنية رسميًا.
من جانبه، يرى الباحث محمد سبأ أن التراث بحاجة إلى إعادة إحيائه قبل توثيقه، خصوصًا في جانب الأزياء النسائية التي تراجعت وظيفتها الاجتماعية ولم تعد مستخدمة بشكل يومي كما هو الحال مع الأزياء الرجالية مثل الجنبية والمعوز.
ويشير إلى أنه نفّذ مشروعًا لصناعة أكثر من ثلاثين زيًا تقليديًا اندثر جزء كبير منها، بهدف إعادة تقديمها للجمهور عبر الإعلام والفنانين والمؤثرين.
ويعتبر أن أفضل وسيلة للحفاظ على التراث تتمثل في تنفيذ مشاريع لإعادة إنتاج الأزياء التقليدية في مختلف المحافظات، وتدريب أجيال جديدة على صناعتها وطرحها في الأسواق، بما يضمن حضورها واستمرارها بدلاً من اندثارها نهائيًا.
ورغم كل هذه التحديات، يظل دور المرأة اليمنية عنصرًا محوريًا في حماية الأزياء التقليدية ونقلها بين الأجيال، لتبقى الأمل الأكبر في أي جهود مستقبلية لتوثيق هذا الموروث وإدراجه ضمن قائمة التراث العالمي.