عندما تُهمل الشاشات .. وجوه يخطفها النسيان

الأخبار المحلية
ريا المزاحي +

على ذاكرة الإعلام العدني تمضي الأيام وتتغير المشاهد لم تعد تلك الوجوه المألوفة هنا تطل علينا من هذه الشاشة الصغيرة، تلك الأصوات التي مثلت المرأة وحملت قصصها المشرقة، وكرست دور المرأة في نقل معاناة الناس والأزمات.
فبعد حرب ٢٠١٥ وبين ليلة وضحاها أغلقت الأبواب أمام الكثير من الإعلاميات العدنيات؛ بسبب أوضاع الحرب وتغير الكثير من الأمور ومنها إغلاق ونقل عدد من الوسائل الإعلامية خارج البلاد.
وإثر ذلك كان الصحفيين بشكل عام هم الأكثر تضررا وخاصة في مصادر رزقهم وتضيق مساحة رأيهم وخاصة الإعلاميات فقد فقدن الكثير من أعمالهن؛ بسبب السيطرة الذكورية لأطراف الصراع، بحسب عضو الهيئة الإدارية لمجلس نقابة الصحفيين اليمنيين "نبيل الأسيدي"
جميلة دبوان العبدلي -37 عامًا - مخرجة تلفزيونية في قناة عدن الفضائية، بدأت مسيرتها الإعلامية في الإخراج مُنذ العام ٢٠١٠، واخرجت الكثير من البرامج التوعوية والإنسانية والاجتماعية وبرامج الأطفال، وبرامج المرأة بشكل خاص وبشكل مبدع وناجح.
بعد نقل قناة عدن إلى العاصمة السعودية الرياض، وبثها من خارج البلد؛ أصبحت العبدلي بدون عمل حيث كانت القناة مصدر دخل ومتنفس لها.
تقول دبوان لمنصة هودج: كانت قناة عدن الفضائية مسرح حلم للنهوض بواقع المرأة وصنع نهضة مجتمعية واعية، فقد ساهمت بتشغيل الكادر النسائي واستقطاب الكثير من الإعلاميات، وكانت القناة على استمرار بالتواصل بصانعي القرار ومختلف المؤسسات الحكومية الداعمة لعمل المرأة في عهد الرئيس هادي.
ومن الأعمال المشرقة الأكثر شهرة في رصيد مسيرة العبدلي إخراجها لبرنامجي كوته ومواطنة متساوية في عام 2010، وهما من أقوى البرامج الداعمة للمرأة.
وخلال اللقاء، بدت العبدلي في حالة تعكس اليأس المهني، حيث ظهرت ملامح الحنين إلى العمل الإخراجي بوضوح، فهي لم تتصالح مع البطالة رغم مرور أحد عشر عامًا، وماتزال تسعى إلى البحث عن فرصة تٌعيد لها شغفها الأول إلا إنها لم تجد.

وجوده من الذاكرة على مرسى البطالة

لا يختلف وضع مُعدة البرامج والمخرجة "إيناس بحصو" وهي حاصلة على شهادة الإعلام من جامعة" سلوفاكيا" عن العبدلي كثيرًا، حيث بدأت عملها في قناة عدن منذ 1994، وتوقفت عنه في 2015 عند اندلاع الحرب ونقل القناة.
تشير بحصو إلى: إن وضعها هي وصديقاتها مزري للغاية تزامنا مع ظروف البلد والغلاء، وتأخر صرف الرواتب.
المسيرة الطويلة للإعلامية "أمل لرباش" مع قناة عدن الفضائية لم تكن قليلة وسهلة، حيث بدأت مُنذ 1983، وقد عملت "الرباش" على إخراج برامج متعددة منها (حدث في الذاكرة، نجوم الرياضة، خليجي عشرين الأول، خليجي عشرين الثاني)
وعلى الذاكرة تحضر الإعلامية "شفيقة عتان" تعمل بالقناة مُنذ 1993 كمُعدة لبرامج الأطفال، وهي رحلة جميلة وغنية بالمعارف، جعلت منها إعلامية مفعمة بالخبرة والحيوية لا تنسى ولا تتعوض، حسب قولها.

الغياب الحكومي

وجدن العاملات القديمات في مجال الإعلام أنفسهن أمام بطالة كبيرة، وبعيدات كل البعد عن سوق العمل الإعلامي؛ وذلك بسبب فتح مؤسسات إعلامية جديدة والاستغناء عن الكثير من الإعلاميات، وفق ما قاله "الأسيدي"
وفي خضم هذه المعضلة يلخص "الأسيدي" جوهر المشكلة في غياب أي دور حقيقي لوزارة الإعلام لإنقاذ الوضع، مُعلقًا بالقول: "للأسف الشديد لا يوجد لدى الدولة أي خطة وبالذات وزارة الإعلام -المشغلة بأمور خاصة- بإعادة الإعلاميات إلى وضعهن الطبيعي والدفاع عنهن وإيجاد فرص عمل لهن".
وتوضح الإعلامية هناء هيثم، وهي مخرجة ومعدة برامج في قناة عدن منذ العام2000، أنها بذلت محاولات عدة للعمل مع جهات إعلامية أخرى لكنها لم تنجح في الحصول على فرصة، مؤكدة أن الكادر الإعلامي قد تم تهميشه ووضعه أمام وضع معاق وصعب. وأشارت هيثم إلى إن نقل قناة عدن كان بمثابة أكبر التحديات في حياتها وأصعبها.
يوافق رأي "هيثم" العضو في مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين "مروان دماج"، حيث يقول نقل القناة كان لأسباب سياسية وعسكرية وأمنية ولكنه مثل تحدي مهني كبير للإعلاميات؛ لأنه أوقف عمليا قدرتهن على الاستمرار في عملهن المهني والحق ضرر كبير في تضرر مصدر رزقهن.
وتصف "عتان" الوضع بقولها: فقدنا جزءً من حياتنا، وتشير إلى أن الظروف الاقتصادية الصعبة وتأخر صرف الرواتب يزيد من المعاناة، مؤكدة أن الراتب لم يعد يكفي لتغطية أبسط احتياجات المعيشة، وسط غلاء لا يرحم، "أصبحنا نحمل هم اليوم والغد معًا" .

فقدان الشغف

دائما ما يكون المكان الذي ترعرت به ابداعاتك ونجاحاتك هو مساحة آمنة ومصدر شغف وحيد بأن تواصل مسيرة مهنتك وخاصة إذا كانت ثقافية، بالإضافة إلى مرور الوقت دون ممارسة للمهنة فهو موت الشغف بذاته.
وتعليقًا على ذلك، قالت الإعلامية نبيلة عون، التي بدأ شغفها الأول في قناة عدن منذ عام 1975، بعد إكمال تعليمها في ألمانيا، إن القناة كانت "بيتها الوحيد". وبعد توقف القناة في 2015، حاولت البحث عن عمل آخر لكنها فقدت الأمل.
وتصف عون الإحباط الذي واجهته بالقول: "المشكلة الكبرى هي عندما تعرضين أعمالك فتجدين مسؤولين أقل مستوى وعديمي خبرة، فيناقشونك وكأنهم أساتذة، ويطلبون منك عرض أعمالك وكأنكِ مبتدئة."
وتضيف "توقفت لأكثر من عشرة أعوام وأنا الآن غير قادرة على العمل بعد هذه السنوات.
الرباش تتفق مع عون قائلة رغم أن سنوات الخدمة كانت أكبر إلا أن سنوات التوقف عن العمل كان لها النصيب في قتل الشغف والطاقة.
وعن عدد الإعلاميات اللواتي توقف عملهن في قناة عدن تقول الرباش بإنه أكثر من (50) إعلامية ما بين الإعداد والإخراج والتحرير، وجميهن الآن ماعدا القليل، أمام مصير بأس وحياة صعبة ووضع مهمش، أغلبهن لا يجدن قوت يومهن.

التلمذة الإعلامية وربط الماضي بالمستقبل

في مشهد يُجسد معنى "الوفاء للخبرة"، وجهت "العبدلي" نداء استغاثة لإحياء ضمير المهنة. قائلة: "لم أتحدث عن موارد مادية أو تقنيات حديثة، بل عن ثروة إنسانية أهملها الجميع وهو الكادر الإعلامي المخضرم"
وتؤكد بأن هؤلاء الرواد هم ذاكرة الإعلام وبوصلته الأخلاقية، وتجاهلهم هو عملية قص متعمدة لجذور الشجرة التي تمد الأغصان الجديدة بالحياة.
ولم تكتفِ "العبدلي" بالتشخيص، بل قدّمت العلاج في دعوتها الملحة إلى "الاهتمام بالإعلاميات القديمات، تزكيتهن، والاستفادة منهن في مجالات تخدم الإعلام بشكل أو بآخر.
وتتفق مع هذا الرأي هيفاء شوكت، ممثلة المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدولي في اليمن (أوسلو)، مؤكدة على ضرورة الاستفادة من هذه الهامات.
كما شددت شوكت على أهمية أخذ هذه الكوادر دورات خارجية، ليكونوا بمثابة جسور حية لنقل أحدث ما في العالم إلى الداخل المحلي.
واعتبرت أن هذه الطريقة تمثل استثماراً في العقول يعود بالخير على الوسط الإعلامي، ويحول الإعلاميات المهمشات إلى محركات رئيسية للتطوير.
دور النقابة

ويرى الاسيدي بأن الوقوف مع الإعلاميات القديمات المخضرمات الواقفات عن العمل بات واجبا على كل أطراف الدولة "ندعو أطراف الصراع إلى احترام حق المرأة في العمل وتمكينهن وإيجاد فرص عمل لهن".
ويعتبر "الاسيدي" أن الفصل التعسفي والاقصاء من أكبر الانتهاكات التي تعرض لها الصحفيات داخل اليمن. ويذكر الصحفية "جميلة جميل" التي فارقت الحياة بظروف غامضة، دون تمكن النقابة من معرفة تفاصيل الحادثة.
وفي خطوة قيمة لنقابة الصحفيين اليمنيين بالتعاون مع الاتحاد الدولي عملت على توثيق انتهاكات الصحفيات وإصدار نشرة شهرية عن الصحفيات وأوضاعهن والتذكير بهن من خلال فاطمة مطهر عضو مجلس نقابة الصحفيين وهي متابعة لقصايا الصحفيات باستمرار.

أما عن قناة عدن الفضائية التي عبرن الكثير من الإعلاميات رغبة بعودتها فيقول دماج: "إن قضية استئناف تلفزيون عدن مطروحة وتحتاج إلى معالجة واسعة وعامة".

ختاما تتهاوى كل تلك الاقتراحات والحلول كأوراق الخريف الذابلة فلا يعلو إلا صدى أصوات إعلاميات منهكات يطلبن ما هو أدنى حيث يمسكن بتلابيب رواتبهن المتواضعة ويلتقطن شظايا كرامة تبعثرت على قارعة الطريق يقايضن وهج الأمل بفتات معاش شهري كل ذلك من أجل استمرارية معاش هو حق لهن.

 

 

المصدر: منصة هودج
زر الذهاب إلى الأعلى