بلاد الثمانية كراسي: حين يتشاجر الطغاة على ظل شجرة محروقة
إلى روح الكاتب الصحفي الكبير الراحل عبد الحبيب سالم مقبل صاحب أشهر عمود في الصحافة اليمنية " الديمقراطية كلمة مرة"
ليس هناك دولة في اليمن، بل مسرح عرائس تسكنه ثمانية كراسي متأرجحة، يجلس عليها "حكام فعليون" يشبهون الوعود المبتذلة التي نسمعها في أعراس الكهرباء والانتصارات الدبلوماسية المعدومة. ثمانية رجال – وبعضهم أشباه رجال – يتقاسمون وطنا كأنهم يتقاسمون غنيمة بعد غارة ناجحة على أطلاله.بل لا أحد منهم يحكم، لكن الجميع يتصرف كأنه الخليفة المنتظر.!
نعم، ثمانية حكام، كلٌ منهم يعيش في فلكه الخاص، محاطا بأكاذيبه المزمنة ومستشاريه الذين يحسنون التهليل لكل خيبة. أحدهم يتفنن في الخطابات الفارغة، والآخر ينحت له تمثالا من "الوحدة" التي باتت تشبه شبحا عجوزا بلا أنياب، والثالث يفاوض مليشيا قاتلة كما يفاوض الراعي ذئبا على عدد الخراف المسموح بأكلها. أما البقية، فيجلسون في مكاتبهم الوثيرة، يحسبون أعمارهم السياسية بعدد الصور في تويتر وعدد زياراتهم للسفارات وللمنظمات الأجنبية.
والحق يُقال إن الدولة فكرة، ولكن في اليمن تحولت الفكرة إلى نكتة. هذه البلاد، التي كان يُفترض أن تكون نموذجا للعدالة بعد ثورة الجمهورية، أصبحت نموذجا للكمائن السياسية والانقلابات الناعمة والخشنة. بل لا توجد وزارة تؤدي وظيفتها، لا يوجد جيش وطني موحد حقيقي إلا على الورق، لا تعليم حقيقي أيضا، لا صحة، لا عدالة، لا مؤسسات. بل لم ما يوجد هو عصابات سياسية وأمراء حروب يتفاخرون بأنهم "الشرعية" أو "الثورية" أو "الإصلاحية" أو حتى "الإلهية"، وكلهم في الحقيقة وجوه متعددة لعملة مزورة.
والشاهد إن الوضع يشبه مشهدا من الكوميديا السوداء: رجل يزعم أنه رئيس في المنفى، وآخر يصرخ باسم "الولاية"، وثالث يقسم أنه يناضل من أجل الجمهورية وهو يبيع قراراته بالدولار، ورابع يطالب بـ"التمكين" وهو يمكن جواسيسه من أرواح الناس، وخامس يتحدث عن "الدولة المدنية" بينما يؤسس فرقة موت مسلحة. وسادس عاطل عن العمل وسابع مطنن ، الخ.أما المواطن، فينظر إلى المشهد كمن يشاهد فيلم رعب، لكن بتذكرة مدفوعة من دمه اليومي.
صدقوني إن اليمن ليست مجرد وطن مخطوف، بل وطن يتنازعه ثمانية خاطفين، كل منهم يضع صورة مختلفة على جدرانه، ويقنعك أن هذه الصورة هي "الوجه الحقيقي للحكم الرشيد". بينما الحقيقة أن الوجوه كلها مستعارة، والحكم كله هروب من الدولة إلى الدولة المضادة.
المؤسف أن هؤلاء الثمانية ليسوا حتى طغاة ناجحين. لم يفلح أي منهم في بناء دولة حقيقية، ولو بحجم بلدية أوروبية صغيرة.بل لا أحد فيهم قدم نموذجا يُحتذى به، لا في الإدارة، ولا في السياسة، ولا في الحرب، ولا في السلم. إنهم مجرد نسخة مكررة من الفشل، يتبادلون الأدوار بينما تتآكل البلاد تحت أقدامهم الثقيلة.
الأكثر سخرية أن بعضهم ما زال يُطالب الشعب بالصبر، وكأننا نعيش تجربة استثنائية في التاريخ البشري. لكن في الحقيقة، نحن نعيش تجربة استثنائية فعلا: تجربة أن تكون محكوما بثمانية حكام في آن واحد، دون أن ترى أثرا لدولة واحدة.
لكن، في غمرة هذا العبث، يبقى سؤال مؤلم: من المسؤول عن هذه المأساة المركبة؟ هل هم الحكام وحدهم؟ أم نحن أيضا، حين ارتضينا التصفيق للطغيان باسم المذهب، والقبيلة، والحزب، والمصالح الضيقة؟ هل نحن ضحايا فقط، أم شركاء في الجريمة بالصمت والخوف والانقسام؟
ربما آن الأوان أن نكف عن لوم الخارج ونبدأ في فضح الداخل. أن نسأل أنفسنا بجرأة: ما قيمة "الشرعية" إن كانت تبرر العجز؟ وما قيمة "الثورية" إن كانت تنتج فوضى؟ وما قيمة "الدولة" إن كانت تُدار كمتجر عائلي؟ وهل هناك أقسى من أن تتحول الجمهورية إلى قميص يرتديه الجميع على أجساد المليشيات؟
كذلك لم نعد بحاجة إلى حاكم تاسع. نحن بحاجة إلى شعب تاسع. ! شعب يعيد تعريف نفسه خارج معادلات السادة والتابعين. شعب لا يعبد الأصنام السياسية ولا يقايض الكرامة بالكسرة. شعب يعرف أن الدولة لا تُمنح، بل تُنتزع من أفواه المتاجرين بها.
فيا بلاد الثمانية كراسي، آن لك أن تثوري.!