بن بريك أمام امتحان عسير: ماذا يمكن لحكومة بلا موارد أن تفعل؟
مضى أسبوع منذ أن أصبح الأستاذ سالم بن بريك رئيسًا للوزراء، وبدأت عدن تغلي بتظاهرات مطلبية تقودها النساء هذه المرة، في مشهد يعكس حجم السخط الشعبي على تردي الخدمات العامة والانهيار الاقتصادي. صيف ساخن يلوح في الأفق، والبلاد على أعتاب أزمة معقدة لم تشهدها من قبل.
مضى الأسبوع الأول، لم ينتقل بن بريك بعد إلى عدن، ولم يلتق وزراءه الذين لم يُبدّلوا. أنما في مقره اقامته في العاصمة السعودية الرياض، يلتقي سفراء الدول المؤثرة في الملف اليمني. وفي أول ظهور إعلامي له، تحدث -ليس لصيحفة يمنية -انما عبر صحيفة عكاظ السعودية عن الدعم السعودي السابق، لكنه لم يستطع تقديم وعود بشأن الدعم المستقبلي.
رغم الإشادات التي يحظى بها الرجل من أوساط تعرف نزاهته وحرصه على المال العام وانضباطه الإداري، كما حكى لي أصدقاء عرفوه في محطات مختلفة من مضماره المهني المتدرج، إلا أن حجم التحديات يضعه أمام اختبار بالغ الصعوبة: كيف يمكن لرئيس وزراء أن يصنع فرقًا بعدما وصل الحال إلى هذا التأزم الكبير، والعجز الفاضح في الموارد والقدرات والإمكانات ؟
إرث ثقيل من الأزمات
لقد سبقه إلى هذا المنصب أربعة رؤساء وزراء تفاوتت فترات ولايتهم. لكن فترة أحمد عوض بن مبارك كانت نتائجها الأقل بريقًا والأكثر تحدياً جوهرياً، خاصة وأن البلاد لم تكن في مواجهات عسكرية مفتوحة مع الحوثيين، وكانت الهدنة - رغم هشاشتها - تتيح فرصة لتطبيع الحياة، وإعادة تفعيل الخدمات، ولملمة جهاز الدولة، وخلق توافق أكبر بين هيئات ومكونات الحكومة بما يضمن تحسين تسيير الموارد. تعاني الحكومة من الشلل الذي شهدته في العام الأخير، ومن الانهيار الاقتصادي والمالي الرهيب، ومن نتائج حرمانها من مواردها الذاتية لمواجهة التزاماتها وتحدياتها.
لمعرفة ما على بن بريك فعله، والنظر فيما يمكن أن ينجزه، علينا أن نقدم لوحة سريعة لما ورثته الحكومة من الفترات السابقة.
لم يرث بن بريك دولة موحدة الهدف بقدرات فاعلة، بل حكومة منهكة منقسمة رأسياً وأفقياً. العلاقات بين المجلس الرئاسي والحكومة تشهد تصدعات خطيرة، ناهيك عن التوترات داخل مجلس الوزراء نفسه الى حد العجز عن الالتئام الدوري. العلاقة مع المحافظات مترهلة، والجهاز الإداري يعاني من فراغ في الكفاءات القادرة على التصدي للتحديات.
الحكومة مكشوفة أمام العبث المالي والاقتصادي الحوثي، خاصة بعد التراجع عن إجراءات البنك المركزي، في ظل عجز الحكومة عن استثمار العقوبات الدولية لتقوية موقفها. ومع الانهيار المستمر للعملة، والتراجع الحاد في الموارد، تتضاءل الخيارات وتتعاظم المخاطر.
الأدهى من ذلك، هو تراجع الالتزامات الدولية والإقليمية بدعم الحكومة، ما يجعل بن بريك أمام مسؤولية مضاعفة لإعادة ترميم الثقة والبحث عن حلول داخلية قبل الرهان على الخارج.
فضلًا عن ذلك، فإن التصعيد العسكري الأخير الذي دشنه الحوثيون في البحر الأحمر، واستجلب ضربات أمريكية وإسرائيلية استهدفت العديد من المنشآت اليمنية في مناطق سيطرتهم، سيضاعف من الأعباء الخدمية والاقتصادية الملقاة على كاهل الحكومة الشرعية.
فمع تضرر البنية التحتية في مناطق الحوثيين، ستكون الحكومة أمام تحديات إضافية في تأمين احتياجات السكان من الوقود، وتسيير عمليات النقل الجوي، ورفع كفاءة استقبال السلع والخدمات عبر الموانئ والمنافذ الحكومية. هذه المسؤوليات، رغم محدودية إمكانيات الحكومة، لا يمكن تجاهلها، كونها تمثل واجبًا إنسانيًا، وفرصة سياسية لتعزيز حضور الدولة في تلك المناطق.
من أين يبدأ بن بريك؟
الأولوية القصوى لبن بريك يجب أن تكون أولاً في إعادة ترميم صورة الحكومة، عبر التواصل الإيجابي مع المجلس الرئاسي وخلق بيئة عمل محفزة داخل الحكومة نفسها. عليه أن يعيد الاعتبار لمبدأ احترام الصلاحيات كما نصت عليها القوانين والدستور، كمدخل لضبط إيقاع العلاقات بين القوى المختلفة والمستويات المختلفة للسلطة التنفيذية. مهمة للنجاح من اجل تخفيف التوترات وخلق بيئة إيجابية. وهذا يعتمد على قدرته على التواصل الإيجابي، وطرح أولويات مشتركة مع أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وتحفيز الوزراء. لا يمكن تجاهل أنه يعمل في بيئة استقطاب داخلي حاد، وعليه قبل تقديم برنامج إنقاذ أن يتعلم كيف يسير بتوازن على حبل العلاقات العامة بين مختلف القوى.
ثانياً، الوجود الفعلي في عدن، ومعالجة التراكمات بشكل مباشر، بات أمرًا حتميًا. لم تعد سياسة التصريحات والظهور الإعلامي كافية؛ بل يجب أن تُترجم إلى إجراءات عملية تلامس احتياجات الناس وتعيد بناء جسور الثقة. الجلوس في مقر العمل لمعالجة ما تراكم من قضايا واتخاذ إجراءات تعيد الثقة بين الشعب والحكومة أمر ضروري.
كما أن إعادة ربط عدن بباقي المحافظات اليمنية إدارياً وتنموياً، رغم التعقيدات السياسية، يمثل ضرورة لا يمكن تجاهلها. يمكن للحكومة، بما لديها من صلاحيات إدارية، أن تخفف من حدة الاحتقانات السياسية الناتجة عن النزاعات الداخلية.
ثالثاً، سيتوجب عليه أن يسجل أعلى نسبة حضور في عدن، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الوزراء، لمواجهة التراكمات في ظل عجز مجلس الوزراء عن الاجتماع بانتظام. عليه أن يعيد لملمة الجهاز الحكومي، ويعيد ربط عدن بجميع المحافظات اليمنية.
رابعا حسين علاقة الحكومة بالمؤسسات الدولية والإقليمية لا يجب أن يكون على حساب استقلالية القرار اليمني. المطلوب هو إدارة ملف المساعدات بذكاء، وفق أولويات يمنية واضحة، دون الارتهان الكامل لأجندات الخارج.
خامساً، ورقة مكافحة الفساد، رغم أنها مغرية للعرض أمام المانحين، إلا أنها قد تنقلب إلى عبء إذا ظلت مجرد شعار فارغ،قد تكون سلاحًا ذا حدين إذا بقيت مجرد شعار يُرفع دون أدوات قانونية وإدارية قادرة على كبح الفساد وتقديم بدائل وخيارات في الأداء، المطلوب هنا بناء منظومة قادرة على كبح الفساد وتقديم بدائل عملية، بعيدًا عن المزايدات والشعارات.
سادساً، الحكومة ليست رجلًا واحدًا، مهما كانت قدرات بن بريك، فلن يستطيع بمفرده إخراج البلاد من أزمتها. الأولوية لتشكيل فريق عمل قوي، وتوسيع دائرة صنع القرار، ما يسهم في إنتاج سياسات أكثر واقعية.
سابعاً، في السنوات الماضية، غرقت الحكومة في مشاكل المناطق الخاضعة لسيطرتها، أو هكذا يُنظر إليها، ونسيت مناطق سيطرة الحوثيين، والتي تمثل تحديًا كبيرًا.
بعد معركة مأرب، لم تتخذ الحكومة سياسة فعالة تجاه تلك المناطق، وعليه الآن أن يوسع من أفقه، وينشئ وحدات خاصة للتعامل مع التحديات القادمة، من تلك المناطق في قطاعات حيوية كاقتصادية ومالية ومصرفية.
التعامل مع التحديات لا يجب أن يقتصر على المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين تمثل ساحة مهمة تتطلب استراتيجية واضحة، سواء في الجانب الاقتصادي أو الإعلامي أو الاجتماعي. عدن يجب أن تتحول إلى مركز جاذب للكفاءات والقدرات بعيدًا عن الحساسيات السياسية.
في الختام ، سالم بن بريك أمام اختبار بقاء صعب، نجاحه مرهون بقدرته على إدارة الأزمات بتوازن، والتركيز على تحقيق إنجازات ملموسة تعيد الاعتبار للحكومة في نظر اليمنيين. التحديات جسام، لكن الإدارة الحكيمة للأولويات، والابتعاد عن الصراعات الجانبية، قد تفتح أمامه نافذة أمل وسط هذا الركام.