تعـزـ وبريغادير... خريطة الهيمنة الناعمة في مدينة الوجع المفتوح،،

Author Icon مصطفى محمود

مايو 19, 2025

في عالم انهارت فيه الحدود التقليدية بين السياسي والأمني، وبين العسكري والمدني، تتسلل مشاريع السيطرة لا كجيوش تعلن فتحًا أو تفرض هزيمة، بل كظلال رمادية تعيد تعريف السلطة كحالة شعورية، والنفوذ كسلوك، والهيمنة كمعيار جديد لإنتاج المعنى. وهذا بالضبط ما يفعله طارق صالح، إذ يعيد رسم خطوط التماس داخل مدينة تعز، لا بالآليات العسكرية، بل بما هو أكثر دهاءً: الاستثمار في الانهيار، وإعادة التسلل من شقوق الدولة المتآكلة.

لا يعود طارق صالح إلى تعز بوصفه وريثًا لعقود من القمع فحسب، بل كممثلٍ فصيح لذلك الماضي الذي قاومته المدينة حتى الرمق الأخير. لكنه يعود الآن بلغة أخرى: لغة التنمية، والخدمة، والتحالفات (المدنية)، حارسًا لبوابة جديدة من الهيمنة، تستبدل الصوت العالي للجنرال بنداء خافت (للشراكة). لكن أي شراكة تلك التي لا تأتي من رحم الوجع التعزي، بل من عرف التنسيق في الخارج؟ هذا التحول في صورة الرجل لا يغير من جوهر المشروع، بل يعيد تأطيره ضمن ما يمكن تسميته بـ«السيطرة المخادعة» التي تتغذى على التعب العام، وتبني مشروعها فوق ركام الهزيمة والخذلان.

حين تتحول الدولة إلى شبح، تختبر السلطة في أماكن الهامش – المديريات، المجالس المحلية، وشبكات الخدمات. في هذا الفراغ، ينسج طارق صالح مشروعه، لا عبر السلاح، بل عبر التمويل، لا عبر العقيدة، بل عبر البزنس السياسي. إنه لا يقتحم تعز، بل يستثمر فيها، على طريقة رجال الأعمال الذين يرون في الجغرافيا أسواقًا، وفي الناس جمهورًا محتملًا للتطويع. بكلمات أخرى، يسعى طارق صالح إلى تحويل السلطة المحلية من تجسيد للدولة إلى أداة للنفوذ، في نموذج جديد من (اللامركزية الموجهة)، تعاد عبرها صياغة الولاءات دون صدام، وتدار فيها المؤسسات بوصفها مدخلًا لاختراق البنية المزية للمدينة.

تعز – التي طالما عاندت السلطة البندقية – تواجه اليوم نوعًا آخر من السيطرة؛ السيطرة التي تشتري ولا تفرض، التي تسوَّق بلغة الحداثة لا بلغة الخنادق. هنا يبرز دور النخب، لا بوصفها حوامل للوعي، بل كوسطاء لتمرير المشروع – كتاب أكاديميون، فاعلون مدنيون، يعاد إنتاجهم كواجهات خطابية لإضفاء المشروعية على المشروع السياسي الجديد، حيث تتحول فكرة التنمية إلى معبر لترويض الذاكرة. طارق عفاش لا يريد أن يحكم المدينة، بل يريد أن يعيد تشكيل وعيها، أن يخلخل صورتها عن ذاتها، أن يقنعها بأنها تحتاجه، لا كقائد عسكري، بل «كرمز عقلاني» لمرحلة ما بعد ثورة 11 فبراير، وما بعد الحرب، وما بعد الذاكرة.

في ظل هذا المشهد المعلّق بين الثورة وخيباتها، وضعف الدولة، تتبدّى ثلاثة سيناريوهات، لا بوصفها احتمالات مستقلة، بل كموجات متداخلة لمأزق المدينة:

**السيناريو الأول– التغلغل الناعم، وهو السيناريو الذي يراهن فيه طارق على عامل الزمن، وعلى استنزاف القوى الثورية، بحيث يتحول المشروع إلى أمر واقع لا يستدعي المواجهة، بل التكيف.

السيناريو الثاني – الممانعة الرمزية، عبر يقظة القوى الثورية والمجتمع المقاوم، التي لا ترى في المشروع سوى نسخة مخففة من الماضي، فتخوض معركة أخلاقية وسياسية في وجه (الهيمنة المقنعة)، مما قد يؤدي إلى انقسام اجتماعي حول معنى الإنقاذ وحدوده.
السيناريو الثالث– الاحتواء السياسي، حيث تفرض السلطة المركزية – إن بقي لها حضور – أو القوى الوطنية الفاعلة، توازنًا يمنع طارق من تحويل المدينة إلى ملحق إماراتي، أو إلى نسخة شبوانية مشوهة.

الخلاصة....
ما يجري في تعز ليس صراعًا على (الخدمات)، بل على الذاكرة. من يعيد تشكيل ذاكرة المدينة؟ من يكتب سردية النجاة؟ طارق صالح لا يريد أن يحكم تعز كقائد عسكري، بل أن يُعاد تعريفه داخلها كرجل دولة. لكن ذلك يفترض من المدينة أن تنسى، أن تعيد ضبط شعورها التاريخي، أن تسلّم بأن ما حدث في 2011 وما تلاه كان خطأ، أو على الأقل فائضًا عن الحاجة. ولأن الذاكرة ليست حيادًا، فإن المدينة اليوم أمام لحظة قاسية من الامتحان السياسي والأخلاقي: هل تساكن النسيان مقابل تعبيد طريق، أم تستبقي جراحها كحائط صد في وجه إعادة إنتاج الجلاد؟

ما من إجابة حاسمة بعد، لكن الأكيد أن الهيمنة تغيّرت، وأن تعز – كما اليمن – يُعاد كتابتها بلغة ناعمة، تشبه الخيانة حين تأتي على هيئة فرصة.

زر الذهاب إلى الأعلى