الشخصية اليمنية والصحة النفسية في زمن الحرب: دراسة سيكولوجية في أثر الصدمة الجماعية على الفرد والمجتمع
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية نفسية لشخصية الإنسان اليمني في زمن الحرب، من خلال تتبع مظاهر التغير النفسي والاجتماعي الناتج عن الحرب الطويلة، وتفشي الأوبئة، وانهيار القيم المجتمعية. تعتمد الورقة على مقاربات في علم النفس التحليلي والاجتماعي، لفهم التغيرات التي طالت البنية الذهنية والانفعالية للفرد اليمني، خاصة في ظل بيئة قاسية تطبعها المعاناة والصدمة[1]. وتستعرض الدراسة آثار الحرب على الأطفال والنساء والرجال، وأثرها في التنشئة الاجتماعية، وانتشار العصاب والذهان، وتآكل القيم، في محاولة لفهم الشخصية اليمنية بوصفها "أنا مأزومة" في زمن انهيار المعنى.
فيما اعتاد الباحث في علم النفس التحليلي أن ينطلق من فرضية أن الشخصية الإنسانية تتشكل بفعل عوامل باطنية وأخرى محيطة بها، اجتماعية وثقافية وتاريخية[2]. وإذا أردنا إسقاط هذه الفرضية على مجتمع معين، كالمجتمع اليمني، فإننا أمام نموذج فريد لشخصية جماعية عاشت لعقود في بيئة مشبعة بالأزمات والحروب والنزاعات الأيديولوجية. وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل الأثر النفسي العميق الذي تركته الحرب في اليمن على الأفراد، مع التركيز على بنية الشخصية اليمنية، والصحة النفسية العامة، وتفكك القيم، وتحولات التنشئة الاجتماعية.
أولًا: الشخصية اليمنية وسياق الأزمة
ترتبط الشخصية في المفهوم النفسي بأنها معطى بنيوي يتأثر بالمحيط الاجتماعي والسياسي، ويعاد تشكيله وفقًا لمتغيرات الواقع[3]. في اليمن، الشخصية القبلية والريفية ذات الأفق المحدود، والميل إلى الفكر الغيبي، تعرضت لهزة كبرى بسبب الحرب، إذ أصبح الفرد – رجلاً أو امرأة – محاطًا بعوامل تهدد وجوده المادي والنفسي. وهو ما يجعلنا نتحدث عن شخصية مأزومة، منهكة، تعيش اغترابًا داخل الوطن، وانفصالًا عن الماضي، وتمزقًا في الحاضر، وفقدانًا للأمل في المستقبل.
ثانيًا: أثر الحرب على الصحة النفسية
تشير الأدبيات النفسية إلى أن الصدمات الكبرى تترك أثرًا جمعيًّا على الشخصية، ليس فقط على مستوى الفرد، بل على مستوى الوعي الجمعي أيضًا[4]. ففي اليمن، عانى السكان من ظواهر مثل:
عصاب الحرب: القلق، الهستيريا، الوساوس، الاكتئاب، الرهاب، التوهم المرضي.
الذهان: مثل الفصام، جنون العظمة، هذيانات الاضطهاد.
اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD): تجلياتها في توقف الزمن النفسي، والانفصال عن الواقع، والانهيار العصبي[5].
ويرى عدنان حب الله أن الحرب تُحدث "شرخًا في تاريخ الأنا"[6]، بينما يؤكد فرويد أن "ما تفعله الحرب هو تعرية الإنسان من قشرته الحضارية"[7]، وهذا ما بدا واضحًا في السلوك الجمعي للمجتمع اليمني بعد اندلاع الحرب...
ثالثًا: تفكك القيم وتغير منظومة التنشئة
الحرب لا تقتل الأجساد فقط، بل تفتك بالمعاني، وتنسف البنى الأخلاقية والثقافية[8]. في اليمن، تفككت منظومة القيم المجتمعية، واختلت العلاقات الأسرية، وانهارت الثقة بالآخر، واختفى الإحساس بالمسؤولية، وأصبحت القيم التقليدية (كالكرم، الشرف، الانتماء) محلّ شك أو سخرية.
كما تغيّرت أساليب التنشئة الاجتماعية بفعل سيطرة الأيديولوجيات المتصارعة، التي شكّلت وعي الأجيال الجديدة، وقادت إلى:
انكماش آفاق العلم والمعرفة.
غرس قيم العنف والكراهية.
تأجيج التنافس المرضي بين أبناء المجتمع الواحالشخصية اليمنية والصحة النفسية في زمن الحرب: دراسة سيكولوجية في أثر الصدمة الجماعية على الفرد والمجتمع [9].
رابعًا: الأطفال كضحايا خفيين للحرب
ربما يغفل كثيرون عن حقيقة أن الأطفال، رغم عدم مشاركتهم في الحرب مباشرة، هم الأكثر تأثرًا بنتائجها. يظهر ذلك في اضطرابات الطبع والعاطفة والسلوك الجسدي، مثل:
البوال الليلي.
التأتأة.
الصلابة السلوكية والعناد.
الخوف المفرط والتشرد والسرقة.
ويشير بيير داكو إلى أن "وراثة الأطفال الجسمية والسيكولوجية تصبح مثقلة تدريجيًا، ما يؤدي إلى تفاقم جنوح الأحداث"[10]، وهو ما يهدد بتكوين جيل مشوه نفسيًّا، فاقد للاتزان.
خامسًا: العصاب والذهان عند البالغين
يمثل الرجال والنساء الشريحة الأكثر تضررًا على المستوى النفسي، خاصة من شاركوا فعليًا في الحرب[11]. وتشير التحليلات النفسية إلى انتشار ما يلي:
حالات اكتئاب حاد، وهستيريا جماعية.
هوس العظمة والشعور بالقوة الخارقة.
الهلاوس السمعية والبصرية.
اضطراب العلاقات الاجتماعية والانفصال عن الواقع.
حالات جنون ناتجة عن فصام مفاجئ أو اضطراب ما بعد الصدمة[12].
سادسًا: التربية في زمن الحرب
أثّرت الحرب بشكل مباشر على بنية التربية والتعليم، مما قاد إلى انحرافات كبيرة في عملية التنشئة:
انقطاع الأطفال عن المدارس.
نشر خطابات أيديولوجية وطائفية.
تعميق الانقسامات الطبقية والدينية.
إعادة تشكيل هوية الجيل وفقًا للحرب لا وفقًا للمواطنة[13].
وقد أدت هذه البيئة إلى إنتاج شخصية غير سوية، تعاني من احتقار الآخر، وازدراء الذات، واستبطان ثقافة العنف والدمار.
إن الحرب في اليمن لم تترك ندوبًا في الجدران فحسب، بل حفرت أخاديد في النفس اليمنية، وشكّلت وعيًا مأزومًا، وجسدًا متعبًا، وشخصية مشوهة نفسيًا. ورغم توقف المعارك العسكرية في بعض المناطق، فإن الحرب النفسية لا تزال مستمرة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تدخلات سيكولوجية ومجتمعية عاجلة لإعادة ترميم الوعي الجماعي، وإطلاق مشروع متكامل للعلاج النفسي الفردي والجمعي، لأن "آلام الحرب" لا تزول بوقف إطلاق النار، بل بإعادة بناء الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:
[1]: طه، فرج عبد القادر وآخرون (1993). موسوعة علم النفس والتحليل النفسي. دار سعاد الصباح، الكويت.
[2]: فرج، أحمد فرج (2007). التحليل النفسي وقضايا العالم الثالث. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
[3]: فرج، أحمد فرج (1979). "مدخل إلى دراسة الشخصية العربية"، مجلة قضايا عربية، العدد الثاني.
[4]: حب الله، عدنان (2006). الصدمة النفسية: أشكالها العيادية وأبعادها الوجودية. ترجمة علي محمود مقلد، دار الفارابي، بيروت.
[5]: داكو، بيير (2007). الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث. ترجمة وجيه أسعد، الدار المتحدة، دمشق.
[6]: حب الله، المرجع السابق.
[7]: فرويد، سيجموند (1977). الحرب والحضارة والحب والموت. ترجمة عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة.
[8]: الحسن، يوسف (2014). قلق القيم: مجتمعات الخليج العربية أنموذجًا. التنوير للطباعة والنشر، بيروت.
[9]: فرج، المرجع السابق.
[10]: داكو، المرجع السابق.
[11]: طه، المرجع السابق.
[12]: فرويد، سيجموند (ب.ت). الموجز في التحليل النفسي. ترجمة سامي محمود علي وعبد السلام القفاش، دار المعارف، مصر.
[13]: الحسن، المرجع السابق