بين الرواية والسردية: استشهاد علي عبدالله صالح ومآلات الزعامة في اليمن المعاصر

Author Icon الدكتور |● عبد القادر الخلي

يوليو 27, 2025

تمثل لحظة استشهاد الرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح في 4 ديسمبر 2017 ،نقطة تحوّل حاسمة في التاريخ السياسي اليمني الحديث.

لم تكن الحادثة مجرّد واقعة اغتيال سياسي، بل كانت فصلًا جديدًا في صراع السرديات حول مفهوم الزعامة والمقاومة ومصير الدولة اليمنية في زمن ما بعد الدولة المركزية. ففي حين سادت رواية أنه قُتل في منزله بصنعاء بعد اقتحامه من قبل الحوثيين، جاء تصريح نجله، مدين صالح، بعد سنوات، ليطرح سردية مغايرة تفيد بأنه استشهد أثناء خروجه للالتحاق بجبهات القتال في مسقط رأسه سنحان. هذا التباين في الروايات لا يُقاس فقط بوقائعه، بل بما يفتحه من أفق تحليلي أعمق حول من يمتلك حق كتابة التاريخ، ومن يُشكّل الوعي الجمعي تجاه الزعماء والمواقف المصيرية.

علي عبدالله صالح، بما له وما عليه، لم يكن مجرد حاكم انتهت ولايته، بل كان حجر الزاوية في نظام سياسي استمر لعقود، ومثّل بالنسبة لكثير من اليمنيين عقدًا اجتماعيًا هشًا تفكك تحت ضغط الحراك الشعبي في 2011. خروجه من السلطة لم يكن خروجًا هادئًا، بل أعقبه اصطفاف سياسي مع خصوم الأمس، الحوثيين، ضمن تحالفٍ تكتيكي فرضته ضرورات المرحلة الإقليمية والدولية. هذا التحالف، الذي أمل فيه الطرفان تحقيق مكاسب ميدانية وسياسية، سرعان ما انهار حين قرر صالح الانقلاب على شركائه في ديسمبر 2017، في لحظة إدراك نادرة بأن هذا المسار لم يعد يحتمل المناورة. المواجهة كانت حتمية، وصالح اختار أن يخوضها بوسائله المحدودة، حتى وإن كان يعلم أن نتائجها قد تكون قاتلة.

من زاوية التحليل السياسي، لا يكمن البُعد الأهم في موضع الاستشهاد بقدر ما يكمن في السلوك الذي سبق اللحظة: رفض الخروج الآمن، تجاهل الوساطات، وتسجيل رسالة صوتية أخيرة خاطب فيها اليمنيين قائلاً: "إذا كتب الله لي الشهادة، فأنا مطمئن، وأستودعكم الله". هذه الرسالة لم تكن مجرد كلمات وداع، بل كانت تموضعًا سياسيًا نهائيًا يعكس تصورًا متأخرًا لمسؤولية الزعامة، ولما يجب أن تكون عليه في لحظات الانهيار.

ولم يكن علي صالح وحده في هذا الخيار، بل إلى جواره سقط القيادي عارف الزوكا، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي العام، والذي مثّل مشهدًا دراميًا لا يقل رمزية. الزوكا، بحسب روايات متقاطعة، خاطب خصومه الحوثيين بجملة ذات حمولة دلالية عالية: "سلّم نفسك لأقرب قسم شرطة". هذا الرفض للخضوع لم يكن تهورًا فرديًا، بل تعبيرًا عن بقايا بنية قيادية حاولت التماسك حتى الرمق الأخير، بالرغم من انهيار المنظومة السياسية والمؤسسية من حولها.

المفارقة تكمن في أن سردية استشهاد صالح وزوكا، طوال سنوات، ظلت حكرًا على طرف الخصومة: الحوثيين.

تم استخدامها لتكريس سردية "الفتح الإلهي" والانتصار على من نعتوه بالخيانة، في إطار خطاب تعبوي طائفي. غير أن ظهور سرديات مضادة من داخل معسكر صالح، لا سيما من أبنائه ورفاقه، أعاد فتح ملف الحدث على المستوى التأريخي والسياسي معًا. ذلك يعيد طرح أسئلة مؤجلة: من يمتلك حق كتابة التاريخ؟ هل استشهاد الزعيم كان خيارًا شجاعًا أم مصيرًا اضطراريًا؟ وما أثر هذه اللحظة على بنية الوعي السياسي اليمني الذي أُغرق لعقود في ثنائيات الزعيم والخائن، البطل والعميل؟

المشكلة لا تكمن في تعدد الروايات، بل في عجز النخبة السياسية اليمنية، خصوصًا بعد 2017، عن بلورة سردية وطنية موحدة يمكن من خلالها التعامل مع لحظة استشهاد صالح بوصفها جزءًا من مسار تحرر وطني، لا مادة لصراع داخلي أو أداة دعاية مرحلية. فالخذلان، على الأرجح، لم يكن فقط بعد رحيل الرجل، بل كان سابقًا له، حين تُرك معزولًا داخل صنعاء في لحظة فارقة، وجرى تقليص هامشه السياسي داخليًا وخارجيًا. كثير ممن رفعوا صوره بعد استشهاده، اكتفوا بتدوير الخطاب دون امتلاك الشجاعة لمواصلة مشروعه أو مراجعة تجربته بصدق.

في السياق الرمزي، لا يمكن اختزال ما حدث في ديسمبر 2017 في معادلة الربح والخسارة العسكرية. فالزعيم قاتل حتى اللحظة الأخيرة، لم يفاوض على كرامته أو دوره، ورفض تسوية تُنقذ حياته مقابل التخلي عن موقفه. في زمن يزداد فيه منسوب المساومات السياسية، يمكن اعتبار تلك اللحظة مرجعًا أخلاقيًا يعيد تعريف مفهوم الزعامة بوصفها موقفًا لا وظيفة.

وعليه، فإن مسؤولية إعادة قراءة الحدث لا تقع فقط على عاتق من تبقوا من أنصاره، بل على النخب السياسية والفكرية كافة، التي يفترض بها أن تنأى عن السرديات الانتقائية، وتسعى لبناء ذاكرة وطنية جامعة. سردية استشهاد صالح والزوكا يجب أن تُستعاد، لا من باب الحنين، بل كأساس لبناء تصور جديد عن ما تعنيه "الزعامة" في زمن الاضمحلال السيادي، وما يتطلبه مشروع التحرر الوطني من تضحية، ووضوح، وشجاعة.

زر الذهاب إلى الأعلى