هندسة التطهير: من "اوشفيتز رفح" إلى جيتو الضفة..

Author Icon خالد سعيد نزال

يوليو 29, 2025

عندما تُصبح "الإنسانية" قناعاً للتطهير، و"القانون" سيفاً للاستعمار ،هل رأيتم يوماً نظاماً عنصرياً يبني مُعسكرات اعتقاله فوق أنقاض المدن المدمرة، ويُسميها "مدناً إنسانية"؟
هل سمعتم بمحتلٍ يُصكّ قوانينه في برلمان "ديمقراطي" لشرعنه سرقة الأرض، ثم يرفع شعار "الدفاع عن النفس" في الأمم المتحدة؟
هذه ليست رواية ديستوبية، بل هي الهندسة الإسرائيلية الجديدة التي تُحوّل الضفة الغربية إلى مستعمرة مسلحة، وغزة إلى سجن مفتوح على مقبرة. فبينما يُصوّت الكنيست على قوانين ضم الأراضي (يوليو 2025)، وتُعلن "المدينة الإنسانية" في رفح عن وجهها الحقيقي كـجيتو عصري ، ينهار آخر أوهام "حل الدولتين" تحت أقدام المستوطنين.
المشهد لا يقف عند حدود التطهير العرقي، بل يتجاوزه إلى تفكيك نظام عالمي بأسره
- أمريكا تُطلق صفقات السلاح بينما تُحرق الفيتو فوق قرارات الأمم المتحدة.
- أوروبا تُدين "شكلياً" بينما توقّع عقود التبادل التجاري.
- الأمم المتحدة تتحول إلى مسرح للخطاب الأجوف، حيث "القلق العميق" هو الذروة في سلم ردود الفعل
السؤال الذي يُطارد الضمير العالمي الآن:
هل اعترافات الغرب بـ"حل الدولتين" مجرد مسكّن أخلاقي، بينما تُسرع جرافات الاحتلال لدفن هذه الفكرة إلى الأبد؟
هذه ليست مجرد سياسة احتلال. إنها آلة معقدة تصنع واقعاً جديداً:
- شظايا القانون الدولي تُحوّلها إسرائيل إلى سكاكين تمزيق الخرائط.
- الصمت العالمي يُتحول إلى وقود لآلة التهجير.
- والدم الفلسطيني يصبح حبراً لرسم حدود "الشرق الأوسط الجديد".
نحن أمام مشهدٍ يُعيد كتابة التاريخ ليس بقلم المنتصر فحسب، بل بدم الضحايا وخرس العالم. لكن هذه الخطة تُعيد إنتاج شبح المحرقة بضحايا جدد، وتُذكر العالم بأن *الاستعمار الاستيطاني لا يختلف في أدواته عن النازية*، حتى لو غلفها بقفاز "إنساني".
"اليوم التالي" الذي تريده إسرائيل لغزة: التطهير العرقي وإعادة التشكيل الديموغرافي
• الهدف المعلن الحقيقي : تروج إسرائيل للمدينة "الإنسانية" في رفح كحل إنساني، لكن الوثائق تكشف أنها جزء من خطة منهجية لتهجير 600 ألف فلسطيني أولاً، ثم توسيعها لاستيعاب مليوني نسمة، تمهيداً لـ"هجرة طوعية" قسرية إلى دول ثالثة .
• التوظيف السياسي : يستخدم نتنياهو المشروع كورقة ضغط في مفاوضات الدوحة، حيث يعرض لاحقاً "تنازلات" كمنحة للفلسطينيين، بينما يحتفظ بالسيطرة على محوري فيلادلفيا وموراغ جنوب غزة .
• النموذج التاريخي : يشبه هذا المسار نموذج "قلقيلية" في الضفة الغربية، المحاصرة بـ 25 مستوطنة وبوابة دخول واحدة، لتحويل الفلسطينيين إلى "كانتونات معزولة" .
قناة بن غوريون و"الريفييرا" السياحية: نهب الثروات
• الربط بخطة ترامب : كشف ترامب عن رؤيته لتحويل غزة إلى "ريفييرا شرق أوسطية" بعد تهجير سكانها، وهو ما وصفه وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش بـ"الفكرة الرائعة" .
• الأطماع الاقتصادية : وفقاً لتحليل مركز القدس للدراسات (عريب الرنتاوي)، الهدف الحقيقي هو نهب ثروات غزة ، خاصة الغاز البحري شمال القطاع، وتدمير البنية التحتية لتحويلها إلى مشاريع سياحية تخدم المستوطنين .
• الدور المصري المرفوض : رفضت مصر استخدام سيناء كمنطقة إيواء مؤقتة، ما دفع إسرائيل لتبني نموذج "الجزر الإنسانية" داخل غزة كحل بديل .
تشابه "أوشفيتز الجديدة" مع معسكرات الاعتقال النازية
• التصميم والحراسة : تُبنى المدينة على أنقاض رفح (90% منها مدمر)، بمساحة لا تتجاوز 25 كم² (ثلث مساحتها الأصلية)، محاطة بأسوار عالية وكاميرات مراقبة، مع منع المغادرة إلا إلى دول أخرى .
• الفرز الأمني : يشبه "فحص الهوية الإلكتروني" عند الدخول "فرز" معسكرات الاعتقال، حيث يُستبعد كل من له صلة بالمقاومة، مما يفكك النسيج المجتمعي .
• *شهادة تاريخية: يصف الباحث اليهودي **نورمان فينكلشتاين* (ابن ناجين من المحرقة) غزة بأنها "معتقل كبير تمرد سجناءه"، مؤكداً أن إسرائيل تسعى لحل نهائي عبر التهجير منذ تسعينيات القرن الماضي .
وثيقة نتنياهو الأمنية 2030: تفكيك إرث بن غوريون
• التحول من الدفاع إلى الهجوم : بينما ركز بن غوريون على ثلاثية "الردع، الإنذار المبكر، القوة الهجومية الوقائية" ، تهدف وثيقة نتنياهو إلى:
- ربط ميزانية الدفاع بـ 6% من الناتج القومي، لتحويل إسرائيل إلى "قوة عظمى رقمية". - بناء "قبة حديدية" توسعية تشمل السيطرة على المناطق الاقتصادية البحرية لغزة. - إلغاء مفهوم "الأرض مقابل السلام" وحل الدولتين .
• التهديد الوجودي: يعترف نتنياهو بأن إسرائيل تحارب على 7 جبهات، لكن وثيقته تجعل من التهجير الديموغرافي أولوية تفوق حتى الرد العسكري .
المشروع الصهيوني الجديد وانهيار الردع الإسرائيلي
• ثلاثية التدمير: تجمع إسرائيل بين:
- التجويع (منع المساعدات عن 80% من مطابخ غزة ).
- التشريد (نزوح 2.4 مليون فلسطيني مرات متعددة).
- التطهير (إدارة خاصة بوزارة الدفاع لتسهيل "الهجرة الطوعية" ).
• انهيار العقيدة الأمنية : فشل مبدأ بن غوريون في الردع بعد هزيمة 7 أكتوبر، حيث باتت إسرائيل تعتمد على الدعم الأمريكي لردع حلفاء إيران، وفقاً لخبراء العلاقات الدولية .
• المأزق التاريخي : كما حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق **إيهود أولمرت*: "تهجير الفلسطينيين إلى مخيمات مغلقة هو حلقة في سلسلة التطهير العرقي التي ستدمر شرعية إسرائيل دولياً" .
"المدينة الإنسانية ليست سوى قناع لاستراتيجية قديمة: تحويل شعب إلى أرقام في معادلة ديموغرافية. لكن التاريخ يُعلّم أن الأسوار لا تقهر الإرادة، بل تُنتج مقاومة تتجاوز الحدود" .
الجزء الأول: الهندسة الميدانية.. من غزة إلى الضفة
1. المدينة الإنسانية : من التجميد التكتيكي إلى الاستمرار الاستراتيجي
رغم الإعلان عن تجميد المشروع في 28 يوليو 2025 وفق مصادر أمنية إسرائيلية ، إلا أن الخطة لا تزال حية في أدراج الكنيست. المشروع - الذي وصفه الإعلام العبري نفسه بأنه "معسكر احتجاز"
- كان يهدف إلى حشر 600 ألف فلسطيني في رقعة 25 كم² بين محوري "فيلادلفيا" و"موراج"، مع منع عودتهم شمالاً وفرض خيار التهجير إلى مصر أو إفريقيا . التراجع الحالي مرده:
- ضغوط لوجستية: تكلفة تقديرية بـ 10-15 مليار دولار، وتعقيدات إدارة معسكر بهذه الكثافة .
- رهان على صفقة تبادل أسرى تتضمن انسحاباً من جنوب غزة .
لكن الجيش الإسرائيلي أقر بديلاً خطيراً مضاعفة المساعدات إلى 150 شاحنة يومياً مع "هدنات إنسانية" مؤقتة، ما هو إلا تمهيد لإعادة إحياء المشروع لاحقاً .
2. الضفة الغربية: التهجير الصامت والاستيطان المسلح
بينما تُسلط الأضواء على غزة، تُنفذ إسرائيل في الضفة خطة ديموغرافية صامتة عبر:
- تسليح المستوطنين: تصريح وزير الأمن الإسرائيلي "إيتمار بن غفير" بتحويل 10,000 مستوطن إلى "قوات شرطة مدنية" مسلحة، أي ميليشيات مرخصة .
- ضمّ قانوني: تصويت الكنيست الأخير (يوليو 2025) على توسيع صلاحيات البلديات الاستيطانية لمصادرة الأراضي الفلسطينية تحت ذريعة "التطوير الاقتصادي"، وهو غطاء لتمديد السيادة الإسرائيلية .
- كودكس غزة الممتد : تطبيق نظام التسجيل السكاني الرقمي لتمييز الفلسطينيين في المناطق المصنفة "ج" وعزلها عن محيطها.
3. نهب الموارد: من غاز غزة إلى مياه الضفة
- حقول الغاز: مواصلة التنقيب في حقل "كاريش" البحري رغم قرارات الأمم المتحدة، بدعم إماراتي لوجستي .
- السيطرة على المياه : تحويل 85% من مياه الأحواض الجوفية في الضفة إلى المستوطنات، بينما يعاني 40% من القرى الفلسطينية من انقطاع المياه يومياً.

الجزء الثاني: الكنيست.. صناعة القوانين كأداة احتلال
التشريع كسلاح ديموغرافي
تحول الكنيست إلى ورشة لسن قوانين شرعنة الاحتلال:
- قانون "الاستيطان أولاً" (2025): يلزم الحكومة ببناء 5,000 وحدة استيطانية سنوياً في الضفة.
- قانون "الترانسفير الطوعي" : يسمح بترحيل الفلسطينيين الذين "يعبرون عن رغبتهم" في الهجرة، مع تمويل دول ثالثة (مثل رواندا) لاستقبالهم .
- إسقاط الجنسية : تجريد الفلسطينيين في القدس من هوياتهم إذا "ينكرون ولاءهم لإسرائيل"، وهو مصطلح فضفاض.
المفارقة الصارخة : بينما يصوت الكنيست على قوانين التهجير، يرفع نتنياهو شعار "حق الدفاع عن النفس" في الأمم المتحدة!
الجزء الثالث: التواطؤ الدولي.. صكوك الإدانة كـ"مسكنات أخلاقية"
1. أوروبا: الإدانة اللفظية مقابل التمويل العملي
-الاتحاد الأوروبي: يصدر بيانات تندد بـ"المدينة الإنسانية" كشكل من التطهير العرقي، لكنه يزيد التبادل التجاري مع إسرائيل بنسبة 18% خلال 2024-2025.
-بريطانيا: تستدعي سفيرها "للاحتجاج" بينما تواصل بيع قطع غيار للقبة الحديدية بقيمة 320 مليون دولار سنوياً .
2. الولايات المتحدة: الفيتو والتمويل.. آلية الحماية المزدوجة
- الفيتو السياسي: إسقاط 45 قراراً أممياً يدين إسرائيل منذ 1972، آخرها قرار يوليو 2025 بوقف بناء مستوطنات الضفة.
- القنبلة المالية : موافقة الكونغرس (يونيو 2025) على حزمة مساعدات عسكرية جديدة بقيمة 3.8 مليار دولار، تشمل قنابل "جي بي يو-72" الموجهة.
3. الأمم المتحدة: مؤسسة الوهم
- محكمة الجنايات الدولية : تحقيق متجمد في جرائم غزة منذ 2023 بسبب تهديدات أمريكية بمقاضاة قضاتها.
- برنامج الأغذية العالمي : يُجبر على توقيع مذكرات تفاهم مع الجيش الإسرائيلي لتوزيع الغذاء، مما يمنح الشرعية للحصار .
الخداع المركزي : الخطاب الغربي يرفع شعار "حل الدولتين" بينما يموّل آلة تهدمه، إذ صرّح وزير المالية الإسرائيلي "سموتريتش": "اقرأوا شفتي.. لن تكون هناك دولة فلسطينية" .
الجزء الرابع: محور مفتوح.. هل انهار حل الدولتين عملياً؟
المؤشرات الحاسمة على الانهيار
1. خرائط الكنيست : تصويت 2025 على ضم 90% من "المناطق C" بالضفة، تاركاً للفلسطينيين جيوباً معزولة.
2. نظام الفصل العنصري : وجود 3 أنظمة قانونية (إسرائيلي، مستوطن، فلسطيني) في الضفة.
3. غزة المنعزلة : مشاريع مثل "المدينة الإنسانية" تفصل القطاع كلياً عن الضفة .
الدول الغربية: خطاب التمسك كـ"غسيل أيدي"
- الورقة التخديرية : تمسك أوروبا الرسمي بـ"حل الدولتين" يُستخدم لتهدئة الرأي العام، بينما يُفقد المضمون. السفير الألماني في تل أبيب صرح: "الحل سيأتي عبر المفاوضات"، رغم أن الاستيطان يجعلها مستحيلة.
- الاختبار العملي : رفض الغرب فرض عقوبات على إسرائيل عند انتهاكها القانون الدولي (مثل مصادرة الأراضي)، مقابل فرض عقوبات فورية على روسيا في أوكرانيا.
الخلاصة: نظام عالمي يشرعن الاحتلال
المشروع الإسرائيلي لم يعد مجرد احتلال عسكري، بل تحوّل إلى:
- نموذج استعماري متكامل : يجمع بين التطهير الديموغرافي (غزة) والاستعمار الاستيطاني (الضفة).
- كاشف العطب الدولي : انهيار شرعية الأمم المتحدة عندما يُستخدم الفيتو الأمريكي كدرع للجرائم.
- مأسسة التمييز: تحويل القوانين الإسرائيلية إلى أدوات "شرعية" لسلب الأرض.
التاريخ يعيد نفسه : في 1948، جرى التطهير العرقي تحت غطاء "الحرب"، اليوم يُنفذ تحت غطاء "الإنسانية" و"الأمن".
لسؤال هل سينكسر الصمت عندما تتحول "المدينة الإنسانية" إلى رمز عالمي جديد للعار، كما كانت أوشفيتز؟
والسؤال المصيري: متى يتحول الغضب الشعبي العربي من بيانات الاستنكار إلى استراتيجيات فعلية لمواجهة الآلة الصهيونية المدعومة غربياً؟

زر الذهاب إلى الأعلى