في حضرة الطائفية: تأملات في خراب الوعي العربي

Author Icon ابتهال عبد الوهاب

أكتوبر 25, 2025

ثمة لحظة قاتمة في تاريخ الأمم، تغيب فيها البصيرة، ويتحول فيها الانتماء من جذر يمد الهوية بالحياة إلى قيد يخنقها. لحظة تتغلب فيها الطائفة على الوطن، والمذهب على الإنسان، والعادة على الفكر. هناك، في ذلك الظلام الكثيف، تموت الحضارة لا برصاصة في القلب، بل بصمت في العقول

الطائفية ليست خديعة خارجية، ولا مؤامرة كونية كما يزعم الضعفاء لتبرير سقوطهم. إنها صناعة محلية خالصة، أنتجها جهل مقدس يتغذى على الخوف من الحرية. فالذي يخاف من السؤال، يقدس الإجابة الجاهزة، والذي يهاب الحرية، يستنجد بالوصاية.
وهكذا تحول الدين في مجتمعاتنا إلى حصن للجهل، لا جسر للمعرفة؛ وإلى شعار للانقسام، لا نداءٍ للمحبة.
الطائفية ليست سحابة عابرة، ولا مؤامرة نسجها الغرب في ليله الطويل، بل هي ثمرة فاسدة لشجرةٍ زرعناها بأيدينا، وسقيناها بخوفنا من الحرية، وجهلنا بالاختلاف، وتقديسنا لكل ما يقتل السؤال. إنها المرض الذي بدأ في الذهن قبل أن ينتشر في الجسد، والعطب الذي أصاب الروح قبل أن يُصيب السياسة.
لقد علمونا التدين، ولم يعلمونا الإنسانية. زرعوا فينا الولاء للمذهب، ولم يزرعوا الولاء للحقيقة. ربونا على الطاعة، لا على التفكير.

فأصبحنا شعوبا تتناحر في الاسم، وتتوحد في العجز. شعوبا تحفظ النصوص، وتقتل المعنى.
لقد أنجب هذا الشرق المقدس قرونا من الكراهية باسم الطهر، ومن الدم باسم العقيدة. أغلق باب السؤال، واصطفت الصفوف خلف اللافتات: هذا مؤمن، وهذا ضال، وهذا كافر، وهذا نجس، وهذا يستحق الحياة، وذاك لا. وهكذا، تهاوت المعاني الكبرى، وسقط الإنسان من حسابات المقدس، فصار الدين طائفة، والطائفة وطنا، والوطن ساحة للقتال
أما الحرية، فقد حوصرت بين المآذن والمنابر، وبين القبيلة والزعيم.

صارت الحرية رجسًا من عمل الغرب، والعقل خيانةً لتراث الآباء، والعلمانية مؤامرة على السماء. وهكذا، استبدلنا التنوير بالتحريم، والبحث بالتلقين، والإنسان بالإمام، فكان أن بقينا حيث كنا: في نقطة الصفر من التاريخ
أما حين ننظر إلى العالم الخارجي، نرى الأمم التي كانت مثلنا يوما، قد تجاوزت خطوط الطائفة والعرق والدين، لتبني أوطانا على أساس العقل والعقد، لا على أساس النسب والعقيدة. هناك، حيث تسود العلمانية لا الكهانة، تزدهر الحرية، لأن الإنسان صار هو المقدس الأول، والفكر هو المعراج الأعلى.
هناك يفكرون بالمستقبل، بينما نحن ما زلنا نجلد بماض لم يعد يرانا
العالم من حولنا يمضي إلى الأمام بخطى العلم والعقل والتجربة، بينما نحن ما زلنا نحفر في مقابر الماضي، نستنطق العظام، ونطلب منها أن تكتب لنا الغد.
هناك، في فضاء الغرب تبنى الدولة على العقد لا على العِرق، وعلى القانون لا على الفتوى. وهناك، تقدس الحرية لأنهم أدركوا أنها المقدس الوحيد القادر على احتضان الجميع.

التجميل والتبرير والترقيع ليست حلولا، بل هي مساحيق تغطي وجه القبح دون أن تمسّ جوهره. الاعتراف هو البداية، والمواجهة هي الشجاعة الحقيقية. إن كل أمةٍ تتهرّب من مواجهة أمراضها، محكوم عليها بالاندثار، مثل أمم سبقتنا إلى العدم وهي ترفع ذات الشعارات عن المجد والهوية والإيمان.
ما الذي قدمته الديمقراطية؟ حرية القول والاختلاف.
وما الذي أهدته العلمانية؟ الفصل بين المقدس والمدنس، بين الروح والسلطة.
أما الليبرالية فقد أعادت للإنسان حقه في أن يكون ذاته، بلا قيد ولا قناع.

وفي المقابل، ماذا أنتجت مدارس الفقه المغلقة سوى جيوشٍ من المهووسين بالكفر والإيمان، وجثث متراكمة على مذبح الحقيقة؟
أيها الساده الديمقراطية ليست كفرا، بل شجاعة الاعتراف بالاختلاف.
والعلمانية ليست إلحادا، بل رحمة بالعقل من استبداد الكهنوت
والليبرالية ليست انحلالا، بل خلاص من عبودية الجماعة إلى كرامة الفرد.

واعلموا انه حين تغيب العقلانية، تغيب العدالة. وحين تغتال العلمانية يغتال الإنسان. وحين يكمم الفكر، يتكاثر الدمار

لقد أصبحت مجتمعاتنا العربية كمن يرقص في دوامة النار، كلما اشتدّ فيها اللهيب، ازداد الراقصون حماسة. نُقاتل باسم الدين، ونهدم باسم الوطنية، ونكره باسم المحبة. نرفع الشعارات الجوفاء ونظنها هوية، ونحتمي بالقبيلة كأنها سفينة نوح، بينما هي في الحقيقة سجنٌ بلا نوافذ.
حين تغيب العقلانية والعلمانية وحقوق الإنسان، يتحول الشرق إلى غابة من الأصوات المبحوحة، كلها تصرخ ولا تسمع. يعلو صخب الكراهية فوق همس العقل، وتصبح الفتنة زادا يوميا على موائد الشعوب. هناك لا تحترم الكلمة إلا إن كانت سيفا، ولا يقدر المفكر إلا إن صار خطيبا للمحراب أو جنديا في جماعة.
لكن التغيير، كما قلتَ، يبدأ من الفرد. من تلك الشرارة الخفية التي تشتعل في ضمير إنسانٍ قرر أن يقرأ، أن يشك، أن يفكك، أن يواجه. من امرأةٍ قررت أن تكون ثورة لا تابعا. من كلمةٍ تتحول إلى وعي، ومن وعي يتحول إلى سلوك.

لقد آن لنا أن نعيد ترتيب المقدسات. أن نرفع العقل إلى مقام النور، والحرية إلى مرتبة العبادة، والإنسان إلى مركز الكون. آن أن ندرك أن الله لا يحتاج إلى وسطاء، وأن الوطن لا يبنى بالمواعظ، وأن الكرامة لا تمنحها الفتاوى بل القوانين.
ما لم تصبح الكلمة وعيا، والمرأة ثورة، والحرية منهجا، والعقل مسارا، والدولة علمانية عادلة، سنبقى قطيعا يتبع الجزار، ونبقى شعوبا تكتب تاريخها بدمها ثم تمزقه بخنجرها. سيظل الوطن مأوى للقبائل لا للأفكار، وسنظل نحمل الموت في لغتنا، والتعصب في دعائنا.
إن الحضارة لا تبنى على الإيمان وحده، بل على القدرة على الشك فيه. والتاريخ لا يصنعه الذين يعبدون الماضي، بل الذين يجرؤون على تجاوزه. فليكن لنا شرف المواجهة بدل عار الهروب، ولتكن العلمانية والعقلانية ليست شعاار للغرباء، بل خلاصا لنا نحن الغارقين في الوحل، باسم الله والهوية والمذهب.
فليكن لنا شرف أن نكون أوائل العابرين من كهف الطائفة إلى فضاء الإنسان، ومن وهم الهوية إلى رحابة العقل. فهناك فقط، تبدأ النهضة الحقيقية

زر الذهاب إلى الأعلى