أزمة توقف مرتبات موظفي الدولة في مناطق الشرعية: قراءة في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية

Author Icon الدكتور |● عبد القادر الخلي

يوليو 30, 2025

منذ نهاية شهر مايو 2025، تشهد مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً أزمة متفاقمة نتيجة توقف صرف مرتبات موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، ما أثار موجة من الاستياء الشعبي والتساؤلات حول قدرة الشرعية على القيام بواجباتها الأساسية في ظل التحديات المركبة التي تواجهها. وبينما تصف الحكومة الوضع بأنه "استثنائي ومؤقت"، يرى مراقبون أن هذه الأزمة تعكس هشاشة البنية المالية والإدارية، وتُشير إلى أزمة ثقة متزايدة بين المواطن والدولة.

أولاً: الخلفية والسياق العام

لطالما مثلت مسألة صرف المرتبات إحدى أكثر القضايا حساسية في اليمن، كونها ترتبط ارتباطاً مباشراً بمعيشة ملايين الأفراد وأسرهم. منذ نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن عام 2016، تعهدت حكومة الشرعية بتولي مسؤولية دفع المرتبات لكافة موظفي الدولة، لكنها أخفقت في الوفاء بهذا الالتزام في معظم المناطق، باستثناء بعض القطاعات كالصحة والتعليم في مناطق سيطرتها.

لكن منذ مايو 2025، حتى هذه الالتزامات الجزئية توقفت دون إعلان رسمي أو خطة بديلة، ما فتح الباب أمام قراءات متعددة، منها ما يربط الأزمة بغياب الموارد، ومنها ما يشير إلى صراع نفوذ داخل بنية الحكومة نفسها أو ارتباطها بتوترات بين الشرعية والتحالف الداعم لها.

ثانياً: الأبعاد الاقتصادية للأزمة

● شح الموارد أم سوء إدارة؟

تُحمّل الحكومة تراجع الإيرادات – لا سيما من تصدير النفط – مسؤولية التوقف عن صرف المرتبات. غير أن هذا التبرير يقف على أرض مهزوزة، خاصة بعد أن استأنفت الحكومة تصدير شحنات محدودة منذ مطلع العام، إلى جانب عائدات الموانئ والضرائب المحلية.

● غياب الشفافية المالية

لا توجد بيانات رسمية منشورة توضح حجم الموارد المتاحة أو آليات صرفها، وهو ما يثير الشكوك حول وجود فساد مالي أو أولويات غير منطقية في الإنفاق (مثل تضخم موازنات الأمن والدفاع مقابل إهمال الرواتب).

● اعتماد مفرط على الدعم الخارجي

الحكومة الشرعية لا تزال تعتمد على الدعم السعودي والإماراتي ودول مانحة أخرى، دون بناء قاعدة مالية مستقلة أو تحصيل عادل للموارد، ما يجعل أي توتر في العلاقة مع هذه الدول ينعكس مباشرة على المواطن.

ثالثاً: الأبعاد السياسية والصراعات داخل الشرعية

● تفكك القرار المالي والسياسي

يبدو أن الانقسامات داخل مكونات الشرعية (بين المجلس الرئاسي، الحكومة، والمجالس المحلية) تعطل اتخاذ قرارات جذرية بشأن الإصلاح المالي أو فرض رقابة على الإيرادات.

● التحالف السعودي الإماراتي: تواطؤ أم انكفاء؟

يرى بعض المراقبين أن توقف الدعم الخليجي لحكومة الشرعية قد يكون رسالة ضغط سياسي لفرض تغييرات في هيكلها أو مواقفها الإقليمية، وهو ما يطرح تساؤلاً حول سيادة القرار اليمني ومدى ارتهانه للداعمين.

● تآكل الشرعية الأخلاقية

حين تعجز "الشرعية" عن أبسط واجباتها – كصرف الرواتب – فإنها تُفرّغ مصطلح "الشرعية" من معناه، وتفتح الباب أمام بدائل سياسية أو أمنية أو حتى انفصالية تطرح نفسها كحلول أكثر فاعلية، مهما كانت تكاليفها.

رابعاً: التداعيات الاجتماعية والإنسانية

انهيار مستوى المعيشة: يعتمد ملايين اليمنيين على الرواتب كمصدر دخل وحيد. توقفها يعني حرمان الأسر من الطعام، الدواء، التعليم، والخدمات الأساسية.

هجرة الكفاءات وانهيار الخدمة المدنية: سيدفع استمرار الأزمة العديد من الموظفين الحكوميين إلى ترك وظائفهم أو الهجرة بحثاً عن مصادر رزق بديلة، ما يعني انهيار ما تبقى من هيكل إداري للدولة.

تصاعد الغضب الشعبي وفقدان الثقة: بدأت مظاهر الاحتجاج تظهر في بعض المدن، وستتسع دائرة الغضب إن استمرت الحكومة في الصمت والتجاهل، ما يهدد بعودة حالة من الفوضى الأمنية أو العصيان المدني.

علماً بأن مرتب عضو هيئة التدريس في الجامعات اليمنية في مناطق الشرعية، في ظل الانهيار الكبير لسعر صرف الريال مقابل العملات الأجنبية، أصبح لا يتجاوز المائة دولار شهرياً. حيث وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 2889 ريالاً يمنياً، ما يجعل مرتب الأستاذ الجامعي الذي يُفترض أن يكون من نخبة الكوادر التعليمية في البلاد، لا يتجاوز هذا الرقم المتواضع. أما بقية موظفي الدولة من المعلمين والإداريين والموظفين العموميين، فإن مرتباتهم الشهرية تقل في كثير من الحالات عن خمسين دولاراً، وهو ما يعكس حجم الفجوة المهينة بين الطبقة العليا الحاكمة والكوادر العاملة في مؤسسات الدولة.

خامساً: النتائج المحتملة إذا استمرت الأزمة

1. تفكك الدولة فعلياً، بحيث تفقد الحكومة الشرعية السيطرة على ما تبقى من أجهزتها في الداخل.

2. تصاعد نفوذ الجماعات الخارجة عن الدولة، مستغلة تدهور الوضع الاقتصادي لفرض سطوتها عبر الخدمات أو الإغاثة.

3. تآكل ثقة المانحين الدوليين، وتراجع احتمالات أي دعم اقتصادي مستقبلي.

4. ازدياد النزعة الانفصالية في جنوب اليمن، في ظل فشل الشرعية في إقناع الجنوبيين بأنها "دولة جامعة".

سادساً: فساد بنيوي وتناقضات في سلوك نخب الشرعية

في موازاة الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد بسبب توقف صرف مرتبات موظفي الدولة، تبرز على السطح مظاهر صارخة للفساد والبذخ في دوائر حكومة الشرعية، تضع علامات استفهام جوهرية حول أولوياتها ومدى التزامها تجاه المواطنين الذين تزعم تمثيلهم.

تُظهر الوثائق والمعلومات المتداولة أن كبار مسؤولي الحكومة، من وزراء ونواب ومستشارين، يتقاضون رواتبهم بالدولار الأمريكي وبانتظام، في الوقت الذي تُحجب فيه المرتبات عن الموظفين العاديين لأشهر متواصلة. هذه الرواتب تُصرف رغم غياب كثير منهم عن البلاد، ورغم عدم قيامهم بأي دور إداري ملموس، ما يكرّس ظاهرة "الوظيفة الاعتبارية" التي تحوّلت إلى وسيلة للثراء الشخصي.

الأدهى أن هذه النخب تعيش هي وأسرها في مدن عربية وإقليمية كالقاهرة، أنقرة، الرياض، أبوظبي، والدوحة، حيث تنعم بإقامات مريحة وخدمات دبلوماسية وسفارات مفتوحة، بعيداً عن المعاناة اليومية للمواطن اليمني، الذي تُطلب منه التضحية والصبر باسم "الشرعية".

وتبرز مظاهر الترف والإنفاق غير المبرر في مناسبات خاصة، مثل حفل زفاف نجل عبدالرزاق الهجري، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الإصلاح، والذي أُقيم في العاصمة السعودية الرياض، بحضور واسع من مسؤولين يمنيين وممثلين دبلوماسيين، في مشهد يُظهر كيف تحوّلت مناصب الدولة إلى امتيازات طبقية معزولة عن أي شعور بالمسؤولية الوطنية.

هذا الانفصام بين معيشة النخبة ومعاناة الشعب ليس مجرد خلل أخلاقي، بل مؤشر على فساد بنيوي داخل مؤسسات "الشرعية"، يهدد ما تبقى من شرعيتها السياسية، ويفتح الباب أمام موجات غضب اجتماعي قد تتخذ أشكالاً غير متوقعة، بما في ذلك العصيان المدني أو المطالبة بإسقاط المنظومة الحاكمة برمتها.

خاتمة وتوصيات

إن استمرار حكومة الشرعية في تجاهل أزمة المرتبات يمثل مقامرة خطيرة بمستقبل الدولة اليمنية. هذه ليست مجرد قضية مالية، بل امتحان حقيقي لقدرة الحكومة على الوجود ككيان فاعل ومسؤول. إن عدم صرف الرواتب هو فعل سياسي بامتياز، سواء كان ذلك نتيجة عجز حقيقي أو تجاهل متعمد.

توصيات:

1. الشفافية الفورية في إعلان الإيرادات والمصروفات وتوضيح أسباب الأزمة للرأي العام.

2. تفعيل الأجهزة الرقابية لمساءلة الحكومة عن أولوياتها في الصرف.

3. فتح قنوات مستقلة مع الدول المانحة لتأمين دعم طارئ مخصص لصرف الرواتب.

4. إعادة هيكلة الحكومة وفق معايير الكفاءة لا المحاصصة، لتقليص الفساد وزيادة الفاعلية.

5. إطلاق حوار وطني عاجل حول مستقبل الدولة ووظيفتها الاجتماعية، وليس فقط حول "الشرعية" كمصطلح.

زر الذهاب إلى الأعلى