التجار في اليمن: مصاصو دماء "قراءة تحليلية في بنية الفساد وتآكل الدولة الاجتماعية"

Author Icon الدكتور |● عبد القادر الخلي

أغسطس 7, 2025

حين يتحول الخبز إلى عبء على الجائع، والدواء إلى سلعة مسمومة، والبترول إلى سبب إضافي للإذلال، لا يعود الأمر مجرّد ممارسات فردية جشعة، بل يصبح مؤشرًا على نزيف جماعي منظم.

العنوان الذي يبدو صادمًا – "مصاصو دماء" – ليس شتيمة، بل توصيف لواقع يعاني فيه الناس من استنزاف يومي لأبسط حقوقهم في العيش الكريم، على يد فئة استباحت السوق والمجتمع في ظل غياب الدولة.

في تعز، كما في مدن يمنية أخرى، تتحول التجارة من وسيلة لتوفير الحاجات إلى أداة للاستغلال، ويتحول التاجر من فاعل اقتصادي إلى مستبد محلي.

ما الذي يجعل ذلك ممكنًا؟
هذه المقالة تحاول تفكيك البنية التي أنتجت هذا الواقع.

1. من المخبز إلى المستشفى: اقتصاد قائم على الغش

الفساد في تعز لم يعد مقصورًا على طبقة سياسية أو مسؤولين نافذين. بل إن النسيج الاقتصادي نفسه، من شركات الصرافة إلى المخابز فالصيدليات، أصبح موبوءًا بمنطق الغش.

الغش هنا ليس انحرافًا عن القاعدة، بل هو القاعدة.
نقص في الوزن، احتكار في التوزيع، أسعار خيالية، أدوية فاسدة، خدمات سيئة... كل ذلك يجري في وضح النهار.

ومع الحملات الأمنية الأخيرة التي نُفذت بالتنسيق مع مكتب الصناعة والتجارة، اتّضح للمواطن العادي – لا للمفتش أو المسؤول – أن ما يدفعه مقابل سلعة يومية يُقدَّر في المتوسط بسرقة ثلث دخله اليومي.
تخيل أن ثُلث جهدك وعرقك اليومي يُسرَق منك على يد "تاجر" محلي لا رقيب عليه ولا ضمير يردعه.

2. الدولة الغائبة: من الضبط إلى الجباية

الحقيقة المرّة أن المنظومة الحاكمة في تعز لا تمثل مؤسسة ضابطة بقدر ما تمثل مؤسسة جباية وتواطؤ.
لا توجد رقابة جدية، ولا قضاء مستقل، ولا سياسة ضريبية عادلة، ولا حماية للمستهلك.
ووسط هذا الفراغ، تنمو شبكات المصالح الخاصة مثل الطفيليات.
يتحوّل التاجر إلى أمير حرب اقتصادي، ويتحول المواطن إلى فريسة يومية.

إقالة المنظومة الحاكمة في تعز ضرورة ملحة

الفساد المستشري في تعز لا يمكن مواجهته إلا بإجراء إصلاحات جذرية تبدأ بإقالة المنظومة الحاكمة الحالية، التي فشلت في أداء أبسط مهامها تجاه المواطنين: الحماية والتنظيم والرقابة.
هذه المنظومة تمثل العائق الرئيسي أمام أي محاولة لإعادة بناء مؤسسات الدولة، لأنها متشابكة مع مصالح الفساد وتحيط نفسها بشبكات حماية من النفوذ والحماية السياسية.
إقالتها ليست فقط مطلب شعبي، بل ضرورة عملية تفرضها متطلبات العدالة الاجتماعية واستعادة الثقة.
بدون هذه الخطوة الأساسية، تظل الحلول الجزئية سطحية وعرضة للفشل.

3. ثقافة سياسية مشوهة تُعيد إنتاج الفساد

الخلل ليس اقتصاديًا فقط، بل ثقافيًا سياسيًا.
حين تُختزل الشرعية السياسية في السلاح والولاء الحزبي، تُختزل الشرعية الاقتصادية في النفوذ والاحتكار.
يُكافأ الفساد بالمنصب، ويُعاقب النزيه بالإقصاء.
في هذه البيئة، لا يمكن أن تنمو قيم مثل الشفافية أو المسؤولية الاجتماعية.

4. انهيار الثقة: حين يصبح المواطن وحيدًا أمام السوق

الأخطر من كل ما سبق هو أن الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة قد انهارت بالكامل.
المواطن لا يثق بالتاجر، ولا بالطبيب، ولا بالمخابز، ولا بالمفتشين، ولا بالأسعار، ولا حتى بجودة الأدوية.
وهو لا يثق بالدولة، لأنها لا تراقب، ولا تحمي، ولا تعاقب.
هذه ليست أزمة سلع، بل أزمة وجود.

5. الحاجة إلى تفتيش دوري وكاميرات رقابة حقيقية

السؤال الذي يطرحه الناس ساخرين: "كم نحتاج من أجهزة لكشف هذا الكم من الغش؟"، لا يعود مجرّد تعبير ساخر، بل يكشف عن الحاجة إلى أدوات رقابة حقيقية وفاعلة على أرض الواقع.
نحن بحاجة إلى تفتيش دوري صارم، وكاميرات مراقبة تُغطي الأسواق والمخابز ومحطات الوقود، لا إلى جولات موسمية استعراضية.
فالفساد لا يُردع بالشعارات، بل بالرقابة المستمرة، والعقوبة المؤكدة، والشفافية.

لكن المسألة أعمق من مجرد أدوات رقابة تقنية، نحن بحاجة إلى تفكيك شامل للمنظومة على ثلاثة مستويات:

القانون والمؤسسات: بناء أجهزة رقابة فاعلة ومستقلة عن النفوذ السياسي.

الاقتصاد والسياسات: تنظيم السوق، كسر الاحتكار، وضع تسعيرة واقعية قابلة للرقابة.

الثقافة العامة: إعادة إحياء قيم المصلحة العامة، والتربية على مفاهيم النزاهة الاقتصاديه

خاتمة: هل تعز نموذج أم نذير؟

ما يحدث في تعز ليس حدثًا محليًا معزولًا، بل نموذج مصغّر لما يمكن أن يحدث في أي مكان تنهار فيه الدولة وتُترك السوق لتأكل المجتمع.

التاجر الذي يغش، مثل السياسي الذي ينهب، جزء من منظومة واحدة.
والمواطن الذي يُترك دون حماية، ليس فقط ضحية، بل مشروع غضب قادم.

السؤال ليس كيف نُعاقب "مصاصي الدماء"، بل كيف نستعيد الدولة قبل أن يتحول الجميع إلى وحوش جائعة.

زر الذهاب إلى الأعلى