‏مطهّر الإرياني… اليمن مقبرة المواهب

Author Icon علوي الباشا بن زبع

أغسطس 9, 2025

حين بحثت مؤخرًا عن قائل “جينا نحييكم”، توقفت طويلًا أمام المفارقة.

لو كان الشاعر والأديب والمؤرخ والثائر مطهّر الإرياني في غير اليمن، لتحوّل إلى رمز وطني تدرّس سيرته في المناهج، وتُخلّد أشعاره في ذاكرة الأجيال، ويُسمّى شارع باسمه في عدة مدن.

لكنّه – مثل كثير من عظماء اليمن – عاش ومضى بصمت، لا تسنده مؤسسات، ولا تحمله موجات شهرة زائفة، بل سكن القلوب التي تعرف الإبداع حين تراه، وتوقّر الكلمة إذا صدقت.

لقد سبقه إلى ذلك الظلّ الكبير شعراء ومفكرون صنعوا لليمن مجدًا ناعمًا: يحيى عمر، البردوني، القمندان، الفضول، المقالح، المحضار… وآخرون من جيل الكبار الذين أوصلوا اليمن بالكلمة إلى أقصى الأرض، وأوصلوا تراثه وثقافته إلى الشعوب العربية من بوابة الإبداع، لا الاصطفاف، ومن منصة الجمال، لا خطاب الكراهية أو المذهبية أو المناطقية.

كان مطهّر الإرياني شاعرًا وأديبًا ومؤرخًا، لكنه قبل ذلك ضميرًا ناطقًا باسم الريف اليمني، وصوتًا للحبّ والبساطة والأرض والإنسان.

من الريف… إلى ذاكرة الأجيال

في أواخر سبعينات القرن الماضي، كنا أطفالًا نتحلق حول أجهزة التسجيل القديمة، “الناشيونال” والراديوهات، نستمع لأغانٍ خالدة لم نكن ندرك يومها أن كلماتها كتبها رجل واحد.

كلمات رسخت في وجداننا، مثل:

“إلا جينا نحييكم…”
“الوداع… وقف وودع”
“خطر غصن القنا…”
"حارس البن في وادي سبأ".

كنا نحفظها عن ظهر قلب، وكبرنا ونحن نظنها من التراث اليمني العميق، لأنها كانت عميقة بالفعل… حتى اكتشفنا لاحقًا أنها كُتبت في سبعينيات القرن الماضي، وأنها خرجت من قريحة مطهّر الإرياني، الرجل الذي كتب كما يزرع الفلاح حبًّا في الأرض، لا كما يكتب الأدعياء.

شاعر ومؤرخ… وأبعد

مطهّر الإرياني لم يكن شاعر غناء فقط، بل كان مؤرخًا للهوية اليمنية، وباحثًا في نقوشها، ومحققًا في لهجاتها، وكاتبًا للوطن بكل أطيافه:
•كتب للثورة، وكتب للتاريخ،
•كتب للفلاح والرعوي والمرأة والقرية،
•كتب عن الجمال في اللهجة، وعن العمق في النقوش،
•وكتب لليمن كما لو كان يحفظها من النسيان القادم.

ترك مكتبة عامرة بالشعر، بالأغاني، بالدراسات، لكنها لم تجد من يحتضنها كما ينبغي.

ذاكرة وطن… ومقبرة المواهب

حين بحثت مؤخرًا عن قائل “جينا نحييكم”، توقفت طويلًا أمام المفارقة:
أن قصيدة غنّاها الناس لأكثر من خمسين عامًا، لا يعرفون أن قائلها كان بيننا، ومضى دون أن يُسأل حتى عن رأيه فيما كتب!

تذكرت يومها أننا جميعًا – أبناء هذا الوطن – جزء من بيئة تُجيد طمس مبدعيها أكثر مما تُجيد الاحتفاء بهم.

بيئة تُخلّد الصخب، وتنسى الصدق.
بيئة لا تقرأ ما يُكتب بصمت، ولا تسمع إلا من يصرخ ويشتم.

خاتمة… واجبة

مطهّر الإرياني وأمثاله لا يحتاجون تماثيل أو شعارات، بل يحتاجون ذاكرة حقيقية تحفظهم، وتعيدهم إلى حيث يستحقون: في وجدان الوطن.

رحم الله الاستاذ مطهّر الإرياني،
ورحم الله يحيى عمر، والقمندان والبردوني والفضول والمقالح والمحـضار، وكل من كتب لليمن بصدق،
ثم غاب في الظل… كما يغيب العظماء.

زر الذهاب إلى الأعلى