تأملات من زيارتي الى الصين

Author Icon الدكتور | ●عارف محمد الحوشبي

أغسطس 26, 2025

لم تكن زيارتنا إلى جمهورية الصين الشعبية ضمن الوفد رفيع المستوى من وزارة الصحة العامة والسكان بقيادة معالي الوزير أ.د/قاسم محمد بحيبح مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر بل كانت انتقالاً فكرياً وروحياً إلى عالم آخر يفتح أمام الزائر آفاقاً أرحب للتأمل في معنى الدولة العظمى ومعنى التقدم الإنساني حين يخرج المرء من حدود النظرية إلى واقع ملموس ولقد سعدت سعادة غامرة بأن أكون أحد أفراد وفد الوزارة برئاسة معالي الوزير شخصياً في زيارة ستبقى محفورة في الذاكرة كمنعطف عميق الدلالة لن تنسيه الايام.

منذ اللحظة الأولى وجدت نفسي أمام أمة متقدمة في جميع المجالات وليس في الطب والصحة فحسب ومما شدني وأثار دهشتي أنني لم أرَ وجهاً لظاهرة الفقر كما نعرفها نحن في أوطاننا للاسف الشديد رغم أن عدد سكان الصين يكاد يوازي قارة بأكملها إلا انني لم أعثر على متسول واحد في شوارع المدن وكأن هذا الشعب قد تجاوز معركة الجوع والفاقة ليخوض معركة الإبداع والإنتاج.

لقد تنقلنا في جولات متعددة إلى مؤسسات صحية متقدمة مستشفى عام ومركز للأورام ومنشآت للعلاج الصيني التقليدي ومركز لمكافحة الأمراض المعدية ومركز المعلومات الصحية ومعرض للاجهزة والمعدات الطبية وفي كل محطة من هذه المحطات كنا نزداد يقيناً أننا أمام نموذج لا يختزل التقدم في الآلات والأجهزة فحسب بل يضع الإنسان في قلب المنظومة، فقد أبهرنا ما رأيناه في معرض المعدات والتجهيزات الطبية حيث أدركنا أن الصين لا تصنع المستقبل ببطء بل تقفز إليه قفزاً وبسرعة خيالية قد تجعلها قريباً في المرتبة الأولى عالميا اقتصادياً وعلمياً وليس ذلك ضرباً من التوقع البعيد بل حقيقة تقترب بخطوات واضحة.

حضرنا عدد من المحاضرات ومما تعلمناه من خلالها كان أعمق من مجرد معلومات طبية وصحية فقد أدركنا أن النظام الصحي في الصين ليس شأناً وزارياً ضيقاً بل منظومة متكاملة يتقاسمها الجميع ابتداء من رئيس الجمهورية إلى أبسط مواطن في أبعد قرية، إنها رؤية تجعل الصحة جزءاً من الأمن القومي وركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة.

في لحظة من لحظات التأمل العميق وانا ارى مستوى النظافة العامة سألت نفسي هل ماأراه نظافة الشوارع أم نقاء العقول؟
نعم فإن أكثر ما شدني لم يكن فقط رقيّ العمارة أو ضخامة المنشآت بل مستوى النظافة في الشوارع والحدائق العامة والميادين، إنه ليس مجرد التزام بقانون بل انعكاس لنظافة العقول قبل نظافة البيئة، هناك علاقة سرية بين الفكر النقي والمدينة النقية بين الإنسان الذي يحترم نفسه والشارع الذي يعكس احترامه لوطنه.

ان هذه الزيارة درس إنساني قبل أن تكون تجربة واطلاع فقد عدت من هذه الزيارة مثقلاً بالأفكار إذ لم تكن الصين مجرد دولة زرناها بل كانت مرآة نرى فيها ما يمكن أن يكون عليه مستقبل الإنسان حين تتوحد الإرادة مع العلم فالصين اليوم ليست مجرد قوة صاعدة بل درس إنساني وفلسفي بليغ يذكّرنا أن العظمة لا تولد من فراغ بل من عمل جماعي ومن انضباط صارم ومن إيمان بأن التقدم حق لكل مواطن.

واخيرا ولأن الرحلة لم تكن لتكتمل دون المرور بمحطة رمزية فقد وقفنا عند سور الصين العظيم وهناك وجدنا عبارة تقول: (من لم يصل إلى هنا فليس بعظيم) هنا أدركت حينها أن عظمة الصين لا تُقاس بالحجارة والجبال التي تعانق السماء بل تقاس بصلابة شعب كتب تاريخه بالعرق والدم والانتصار على المستحيل.

زر الذهاب إلى الأعلى