فيلم هندي أكشن ..
كنتُ شغوفًا جدًّا بالأفلام الهندية، وكانت سينما النصر بمدينة الضالع في أوج ازدهارها. وكان والدي -رحمه الله- وعمّي -حفظه الله- يمتلكان مطعمًا ومسكنًا في المدينة، وكانت أضواء السينما وأصواتها تكسو ليالي المدينة سحرًا وحيوية.
هزيع السبعينيات ، تلك الأيام، كنتُ خلالها فتى مراهقًا حالمًا غارقًا في أعماق الرومانسية، لا تزال محفورة في ذاكرتي. كنا مجموعة من الفتيان نترقب عروض الأفلام الهندية بحماسة وشغف لا متناهي .
تباينت ميولنا بين البطل "دارمندرا"، و"أميتاب باتشان"، أو ما كان يعرف بـ"بطل السلسلة". كانت أصوات الأغاني ورقصات الممثلين تملأ المكان، فتح بعضهم حوانيت لتسجيل وبيع أشرطة لا تُفهم منها غير كلمتي "زندكي" و"دُنيا هيه ".
أمسيات الخميس كانت لها نكهة خاصة تنفرد بها المدينة؛ تعج بالبهجة والنظافة، تصطف البيوت مضيئة بنوافذ مشرعة، أصوات الأطفال صاخبة منبعثة من ثنايا المكان مضفية لها الحيوية والأُنس .
كانت العائلات تجلب عشاءها من المطاعم ، وجباتٌ بسيطةٌ باتت جزءًا من ذاكرتنا؛ الروتي مع الفاصوليا الحمراء . أرباب بعض الأسر يأتون بخبز البيت إلى المطعم، يتناولونه مع البيض المقلي أو الفاصوليا أو التونة، قبل عودتهم إلى دفء منازلهم .
كل شيء في المدينة كان جالباً للبهجة، حتى الجدران ، بحجرها الصلد ، تشاطر البشر متعة اللحظات الدافئة بالود
والبساطة والصدق . حقبةٌ طغت فيها رومانسية مثالية ، وأحلام ثورية غشيت الحياة بالوان زاهية .
وكان منزلنا المكون من طابقين - عرفت في فترة لاحقة أنه من البيوت المؤمَّمة على الحاج قائد فارع رحمه الله، والد زميلي في الثانوية الدكتور نجيب -وكنا ندفع شهريًا دينارًا واحدًا (عشرون درهمًا) لإدارة الإسكان والبلدية.
وفي ذلك الوقت، كان يعمل في المطعم شخصٌ رائعٌ ملتزمٌ جداً بالصلاة والصيام، يكاد يكون الوحيد من العمال الذي بقي محافظاً على الشعائر الدينية ، وكان مولعًا بالفنان محمد سعد عبد الله.
تبدو صورته حاضرة بوضوح، نشيطًا، لا يغيب عن نوبتي عمله صباحًا في المطعم أو مساءً في صالة السينما.
أكن لهذا الرجل كل مودتي! كنتُ أمنحه ثلاثة دراهم أو درهمين، وهي في ذلك الوقت ثمن تذكرة سينما درجة أولى أو ثانية ، لينقذني من صخب الطوابير، ولا سيما المشاجرات التي تحدث أحيانًا على الطريقة الهندية، حيث القوة والفتوة هي الحكم .
أذكر أيضًا الطبيب الهندي الشهير "راو"، الذي كان يحضر مع عائلته إلى صالة العرض، ويأخذ لهم أفضل المقاعد في الطابق العلوي .
مشهدهم بين الجمهور كان يبعث في نفوسنا هيبةً وفرحًا، وكأننا نشاهد جزءًا من الفيلم ذاته. في استراحات نصف الوقت، كنت أتأمل لباسهم ووجوههم، أتأمل وأنظر بفضول إلى لباسهم وسحنة وجوههم، وأقارنها ببني قومهم في الفيلم.
كنت أتابع عروض الخميس من خلال ملصقات معلقة بعناية في جدران السوق المركزي.
في إجازة الصيف فلا مشكلة ، ففي هذه الأشهر أكون في المدينة عند أبي وعمّي وأقاربي حتى تنتهي العطلة.
كانت المشكلة في أيام الخميس التي أكون فيها في القرية في جبل جحاف، المطل على المدينة من جهة الغرب والشمال، وكأنه سادنها الأمين.
لهذا لجأت إلى اختراع الحجج والمبررات لإقناع أمّي بالذهاب إلى أبي في المدينة. أكمِل آخر حصص يوم الخميس وأنطلق مثل السهم؛ مرةً أقول لها إن المدرسة طلبت صورة، وتارةً أتوسل إليها لحضور مباراة كرة قدم.
أما أكثر المرات فكانت من أجل جلب شيء للبيت. في كل مرة أكتب حاجات البيت في قصاصة، والمضحك أنني في كل مرة أجدني أكتب "مِكنسة" أو "شَريم" أو "عطيف"، وكأننا ذاهبون لنقاتل كفار قريش في غزوة بدر!
كان مستغربًا أن والدي لم يسأل يومًا عن تلك الطلبات المتكررة في كل قصاصة ، وكانت وسائل النقل بعد الظهر تحد من سفرنا، فكنت أغري أترابي بمشاهدة أفلام السينما
، اغراء عثرت فيه على رفقة مشيًا على القدمين .
وفي كل أمسية هندية، أقبل على والدي برفيقٍ أو اثنين من القرية . لم يزعلْ أو يضقْ ذرعاً من تصرفي قط ، على العكس كان يستقبلنا بترحابٍ ويأمر العامل بتقديم العشاء لنا ،ويأخذنا إلى السينما، دون ضيق أو اعتراض، بل بود وطيبة قلبية .
كثيرًا ما همس بأذني بحكمة: "يا بُني، استمتع بما ترى لكن لا تغتر ، فالحياة ليست كلها سينما ولا كل الأبطال يحملون قمصانًا لامعة".
ذات مرة، اصطحبت عليًّا، أعنف وأشقى فتيان القرية، وكانت تلك خطيئة لا تغفر لي . تأثر بمشاهد الفيلم الهندي وراح يطبقها في القرية ، ومن ثم في المدرسة.
كان عليٌّ مفتول العضلات، وقد آذى الكثيرين من أقرانه في القرية والمدرسة، لكنه بعد مشاهدته أميتاب باتشان، صار وحشاً فتاكاً ! فمن وقتها زادت عدوانيته، وأصبح يلكم هذا ويصرع ذاك، ومع سقوط كل ضحية جديدة، كانوا يلعنون الذي أخذَه إلى السينما".
بقيت أتحين عودة والدي بخوفٍ وهلع، كنت أشعر في أعماقي أنني السبب ولا بد من عقاب ينتظرني. عاد الوالد فلم يحدث ما توقعته، وإنما كان هناك حدث آخر ينتظرني. فقبل أيام من عودته، بلغه أن شقيقي امتطى ظهر جمل كان عابراً مع أبل قدمت من منطقة مجاورة.
كان الجَمل فتيّاً، وما إن اقترب ليرتع تحت شجرة حتى قفز شقيقي معتلياً ظهره، فهاج وماج وأخذ يتقافز ويجري كالملدوغ ، وسمع الناس صوته في الأرجاء.
خرج أهل القرية يشاهدون المشهد كفيلم هندي، ولا أعلم كيف بقي أخي ممسكاً سنام الجمل غير المروض إلى أن أنهكه الجري فتوقف في آخر المطاف.
كان أميتاب باتشان ! ورغم أنه نجا بأعجوبة، إلا أن والدي غاظه التصرف الصبياني. ومع مأثرته العظيمة التي صارت أهزوجة تلهج بها ألسن الرجال والنساء والفتيات، كان لوالدي رأي آخر؛ فقد وبخني وذكرني بانتهاكات "علي"، وكشف عن الأشياء المخبأة في غرفة أدوات الحراثة والسقي .
وقفتُ صامتًا ، عيني بقت مصوبة ناحية الأحبال والمناجل والمكانس المنثورة في الأرض ، أذهلني والدي بحلمه وصبره ، موقف لم أغادره الا بتعهد لأبي بالإقلاع عن اختراع الأعذار وسرد قصص الأفلام الهندية . وعدته أن ملحمة عنترة والجمل ، آخر فيلم هندي أكشن ...