سقوط الفاشر: زلزال سياسي يعيد رسم خرائط السودان
لم يكن سقوط مدينة الفاشر في يد قوات الدعم السريع حدثًا عابرًا في سياق الصراع السوداني، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا عميق الأثر يعيد صياغة توازنات القوة في السودان، ويهزّ بنية الدولة المركزية على نحو غير مسبوق منذ الاستقلال.
فبسيطرة الدعم السريع —المدعوم ماليًا وعسكريًا من أطراف إقليمية أبرزها الإمارات— على المدينة، يكون إقليم دارفور بأكمله قد خرج فعليًا من سيطرة الدولة المركزية، في أخطر انقسام جغرافي وسياسي تشهده البلاد منذ عقود.
تمثل دارفور أكثر من ربع مساحة السودان، وتُعدّ خزان ثرواته المعدنية ومصدرًا رئيسيًا للذهب والمعادن النفيسة. ومع انتقال السيطرة عليها إلى قوة شبه عسكرية ذات ولاءات خارجية، يتحول الإقليم إلى منطقة نفوذ منفصلة تمتلك الحدود والسلاح والموارد، وتتحكم في خطوط الاتصال بين السودان وكلٍّ من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
هذا التطور لا يعني فقط تبدّل السيطرة المحلية، بل يشير إلى تأسيس كيان متمرد ذي ملامح دولة موازية، ما يمهد الطريق لانفصال فعلي مدعوم خارجيًا، في إعادة إنتاج لنموذج "جنوب السودان" بصورة أكثر خطورة واتساعًا.
إنّ سقوط الفاشر ليس مجرد خسارة ميدانية، بل هو إعلان لانقسام السودان بين شرق وغرب، وتدشين لمرحلة جديدة من إعادة هندسة الجغرافيا السياسية في وادي النيل.
فانفصال دارفور —أو تحوّلها إلى كيان تابع لقوى خارجية— سيؤدي إلى محاصرة مصر استراتيجيًا من الجنوب والغرب، وقطع امتدادها الطبيعي نحو العمق الإفريقي، وهو ما يخدم مباشرة مشروع تفكيك المجال الحيوي المصري والعربي في القارة.
من هذا المنظور، لا يمكن النظر إلى ما يجري في السودان باعتباره شأنًا داخليًا فحسب، بل كجزء من مشروع إقليمي لإعادة توزيع النفوذ في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل، عبر تفكيك الدول المركزية وإعادة تشكيلها على أسس جهوية وعرقية.
إنّ دارفور اليوم ليست مجرد ساحة حرب، بل قاعدة استراتيجية لقوى إقليمية تسعى لفرض واقع سياسي جديد، تكون فيه الحدود مفتوحة أمام شبكات التهريب والمرتزقة، ومغلقة أمام التواصل العربي والإفريقي المتكامل.
إنّ السكوت العربي أمام هذه التحولات ينذر بعواقب وخيمة. فكل تأخير في التحرك الجماعي لحماية وحدة السودان واستقراره، يعني تفكك خط الدفاع الغربي للأمن القومي العربي، وترك الباب مفتوحًا أمام قوى غير عربية لفرض وصايتها على مستقبل الإقليم.
إنّ ما حدث في الفاشر ليس مجرد سقوط مدينة، بل سقوط درعٍ جغرافي وسياسي كان يحمي الأمة من اختراقات جديدة قادمة من الجنوب الغربي للقارة.