وداعًا يليق ب" ليلى " ...
لم يكن "وجدان " يعلم ما يُخبئه له قدَرُه. وهو في طريقه ناحية شلال "النافوش" القريب من قريته في "مِيْتَم"، صادَفَ فتاةً واقفةً إلى جانب سيارتها عاطبة الإطار .
كرَجُلٍ ريفيٍّ نَشْمِيّ، دعاها الانتقال إلى ظلِّ شجرةٍ وَارِفة، ريثما يُبَدِّل إطار سيارتها. للمرة الأولى في حياته يواجه مِثل هذا الموقف، لم يسبق له أن قام بمثل هذا العمل.
وحين أتمَّه، شكرَتْه الفتاة وشغَّلت محرِّك السيارة، لكنه لم يعمل. كان ثَمَّةَ سرٌّ خفيٌّ لا يُدْرِكُه أيٌّ منهما. بعد محاولاتٍ عديدةٍ باءت بالفشل، انطلقَ وجدان إلى القرية ليَجْلِبَ مهندسًا للكهرباء.
ظنَّ وجدان أنَّ مهمَّتَه انتهت بمجرَّد تشغيل المحرِّك، لكن الفتاة طلبت منه أن يَرْكَبَ معها كي توصِلَه إلى حيث يُريد، إذ كانت عائدةً إلى مدينة إِبّ.
اعتذرَ خَجَلًا: "لا أستطيع الركوب بجوارك، فأنا رَجُلٌ وأنتِ فتاة." فأجابَتْهُ: "أنا مِنْ صِنْفِ المُتَعَلِّمِينَ في أمريكا، مُنْفَتِحَةٌ للغاية. ولو كنتَ مِنَ أولئك الذين نخشى مِنهم، ما تَجَشَّمْتَ عناءَ مساعدتي."
صَعِدَ وجلس في المقعد الخلفي. وقبل أن يَصِلَ إلى مَحطِّ نزوله، طلبتْ مِنْه رقم هاتفه. ففَزِعَ واعدَّ طلبَها غيرَ لائق، فقال لها : "إنَّ الرجالَ لا يحتفظون بأرقام نساءٍ غريبات " .
فطمأنَتْه قائلة: "يا عزيزي، لا تَذْهَبْ بِظَنِّكَ بعيدًا، فكلُّ ما أريده هو أن والدتي تشكرك على مساعدتك لي، وبالمُناسبة تُعللها بِسَبَبِ تأخري، هذا كلُّ شيء."
في تلك الليلة ذاتها، رَنَّ هاتفُه، وكانت المُتَّصِلَةُ هي والدة "ليلى ". كانت مسرورةً جدًّا لِسَعادة ابنتها. أقول لكم إن القَدَرَ كان يُخَبِّئُ شيئًا لوجدان ذي الـ 35 عامًا، و"ليلى " ذات الـ 27 عامًا. فما ينبغي علمه أنه متزوجٌ وله ثلاثة أبناء، وكان يقضي إجازة عيد الأضحى مع عائلته في قريته ب "مِيْتَم".
أما "ليلى " فكانت تعيش مع والدتها في مدينة إِبّ، وعائلتها مِن بلدة الشعر ، وجميع أفرادها يحملون الجنسية الأمريكية. وبسبب هذه الجنسية، صدَّت "ليلى " عُرَسانًا كُثُرًا تَقَدَّمُوا لها، رغم معاناتها مِن عيبٍ خَلقيٍّ في القلب، وصعوبة حصولها على مُتَبَرِّعٍ في أمريكا، ما جعلها في قائمة انتظارٍ بين الحياة والموت.
كان والد "ليلى " غادر اليمن في ثمانينات القرن المنصرم ، وتُوفِّيَ قبل أعوامٍ تَزِيدُ على العشرة، تاركًا زوجة وثلاثة أولاد وفتاة يعيشون في امريكا .
والشيءُ الذي أحبَّتْه في وجدان هو تَصَرُّفُهُ الشَّهُمُ وصِدقُه معها، فهو الوحيد الذي لم يُدَاخِلْه طمعٌ، حتى إنه كان رافضًا لصُعُود سيارتها ومُمانعًا لمنحها رقم هاتفه، على عكس أولئك الرجال الذين أدركت طمعهم بمالها وجنسيتها.
وبعد مكالمة الوالدة، ذهبتْ بِمُصَاحَبَةِ ' ليلى" إلى القرية حيث مسكن وجدان البسيط، وهناك استقبلهما بِحَفَاوَةٍ ، وحينما استقرا تركهما مع زوجته ونسوة أقاربه، بينما مضى ناحية أصدقائه.
وعندما عاد، أخبرته زوجته بِطِيبَةِ الأم وابنتها، وبدعوتها للعائلة للضِّيافة في منزلهما في مدينة إِبّ. وفي الموعد أخذ عائلته بسيارة أجرةٍ إلى هناك . تناول معهم وليمة الغداء، ومن ثم غادر المنزل إلى حديقةٍ قريبةٍ لغياب رجلٍ في البيت يَتَنَاوَلُ معه قاتَ بعد الظهيرة
إلى هذه اللحظة، كان وجدان لا يزال يجهل أن القَدَرَ يُخَبِّئُ له ما لا يدركه، فوجئ بِزَوْجَتِهِ تُخْبِرُهُ بِمُوافقتها على زواجه مِن "ليلى". فَانْتَفَضَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ:
"موه تقولين ؟ مو براسك جني ؟! كنتِ عادك بعقلك !.
رَدَّتْ بِحَمَاسٍ غير معتاد: "أقول لكَ جَدًّا! عمَّتُنا "نورية" - ولا مِثْلَ لها في الدنيا - قالت إن الشقة الثانية المملوكة لهم ستكون لنا هديةً نظير موافقتي على زواجك."
رد وجدان مُتَسَائِلًا: "يا لَطِيف! مسرع بِعْتِ زوجك ، بِشَقَّةٍ مفروشة وَيْلَكِ .. الله ما أجشعك ! لكن كيف استطاعت هذه المرأة إقناعك؟! والله إنها تستحق جائزة نوبل للسلام!"
وأمام إلحاح الزوجة والعمة "نورية"، ذهب وجدان إلى بيت "ليلى" في إِبّ. أدرك أن كلام زوجته صحيح، وبدأ ولأول مرةٍ يستوعب حديث زوجته ، وأخذ يفكر في زوجةٍ ثانيةٍ تُخْرِجُه مِنْ دائرة الفقر.
كيف لا وهي تحمل الجنسية الأمريكية، وعندما يتزوجها ستَنَفَتِحُ أمامه أبواب الهجرة. إضافةً إلى أن الفتاة تعاني مِن مرضٍ في القلب، وضميره يُؤَنِّبُه إذا ما رَفَضَ طلبها ، مؤكد سينفطر قلبها المتعب ..
في مدينة إب ، وفي صالة الضيوف حيثما تقطن بمعية والدتها ، تم عقد قرانه على ليلى ، فوجدها طائرةً مِن الفرح. لم يصدق ما حدث . حين كان يغادر المنزل عائدًا إلى مسقط رأسه ظل السؤال مستوطنًا ذهنه : " أنا في حُلْمٍ أَمْ خيال؟!"
أصبح يخرج مع ' ليلى " للتجول والتبضُّع، وبمُرور الوقت زاد تَعَلُّقُها به. رأت فيه خير الرجال؛ لا طمعَ ولا كذبَ ولا تعقيد للحياة . جلُّ تصرُّفاته أَوْحَتْ لها بأنه الزوج الصالح الذي لن تندمَ على قرارها .
كان خال " ليلى" يُحَذِّرُ أمها مِن خروجها معه، لكن الأم كانت مِن النوعية المُتَفَتِّحَة. طالما قالت: "يا أخي الكريم، بِعَقْدِ قِرَانِها وقبولها الزواج منه، صارت زوجته شرعًا ودِينًا. أما مسألة تأجيل ذلك إلى بعد الزفاف، فليست مِن الدين بل عادة وعُرف "
عاش وجدان حُلْمًا جميلًا، كان يقضي معظم وقته مع "ليلى" وأمها ، محافظًا وبنقاء على آداب وأعراف الحياة الاجتماعية .
كان يُسْتَقبَلُ في الشقة استقبالَ المُلوك. وكانت "ليلى " كائنةً مَلائكية، وديعة ، محبة للحياة والناس ، لم تُحِسِّسْه لحظة بِضِيقٍ أو بِتَصَرُّفٍ لا يُعجبه.
كلُّ وقته معها سعادة، وكلُّ يومٍ قضاه معها مناسبةٌ عظيمة. لم يَعْتَدْ سَماعَ تلك الكلمات الدافئة: "أهلاً حبيب قلبي، كيفك يا روحي؟ ما رأيك يا عيوني؟ لا تشغل بالك يا أجمل الرجال..."
قبل أربعة أيام مِن الزفاف، اتصلت به عمته في مُنْتَصَفِ الليل. نظر إلى هاتفه مذعورًا مُتَسَائِلًا: "ماذا حدث؟ ولماذا تريدني في هذا الوقت؟ وكيف رفضت تأجيل قُدُومِي إلى الصباح؟!"
اتَّصَلَ بِقَرِيبِهِ مُضْطَرِبًا لا يدري ما الخبر. كانت هواجسُ عدةٌ تدور في ذهنه. وانطلقَ برفقة سائق السيارة إلى المدينة، فوجدا البيت مغلقًا. وعندما هاتف عمته، طلبت منه اللحاق إلى مستشفى "الشفاء "، وقالت له إن حالة "ليلى " خطيرة.
وصل المستشفى قبل أذان الفجر، فوجد "ليلى" مضطجعةً فوق السرير. صَرَخَ كالمجنون، طالبًا بِحُضور طبيب قلبٍ لإنقاذ زوجته. صاح مُتَوَعِّدًا بِهَدْمِ المستشفى إذا ماتت "ليلى " بسبب إهمالهم. الْتَفَّ حوله الممرضون والحراسُ والنزلاء.
أخبره أحدهم أن الطبيب في طريقه، فدخل على "ليلى" في غرفة الإنعاش. وجدها مُبْتَسِمَةً بِجَذَلٍ غريب، وأشارت إليه بيدها بِصُعوبةٍ بالغة. وما إن اقترب وجلس بجانبها ماسكًا يديها، فتحدثت بِكلماتٍ قليلة:
"وجدان ، حبيب قلبي، أَحِسُّ أن ملك الموت يُناجيني، إنه ينتظر فقط وصولك كي أُخبرك: لا أحد يُوسِّدني في القبر سِواك. أريد أن تكون يداك آخر مَن يلمس جسدي ويُوَدِّعني."
فقال: "لا يا ليلى، الطبيب قد وصل، ستعيشين ونتزوج يوم الخميس المقبل، أرجوك لا ترددي مثل هذه الكلمات..."
دخل الطبيب وبقي يُعَايِنُ "ليلى"، وبعد ساعة خرج ليقول لوجدان ونورية : عظَّم الله أجركم، فعلنا ما علينا، لكن حالتها كانت حرجة، وروحها الآن في السماء."
لا يدري وجدان كيف تَمَالَكَ نَفْسَهُ ؟ وكيف أنه لم ينفجر باكيًا ؟ وكيف نفَّذ وصية زوجته بِكامل حذافيرها ؟ لكنه وما أن انتهى من وضعها في رَمْسِها وغشاها بالتراب، حتى أُصِيبَ بِغَيْبُوبَةٍ مفاجئة، قال الأطباء إنَّها صدمة ، فلم يُفِقْ مِنها إلا في مساء ذلك اليوم.
أما العمة "نورية" فوقفت ثابتةً ومتماسكةً أفضل مِن الزوج المسكين ، طلبت منه ذبح ستة ثيرانٍ لِرُوحِ الفقيدة. فقام وجدان بِذَبْحِ القَرَابِين، لكنه وزَّع لحمها بِطريقته: ثوران لدار الأيتام، وواحد ونصف لأهل الحي، واثنين ونصف أخذهما إلى المطعم وخَصَّصَهما للعزاء.
وعندما علمت نورية بِفِعْلِ وجدان ، دُهشت مِن قدرته وطيبته وأمانته. سألته متعجبة : "كيف مضى العزاء على أحسن ما يرام وكيف أن القرابين كانت كافية لجموع المعزين ودونما نقصان ؟" .
فأجاب: " وعدتك ان لا تشغلي بالك بالعزاء ، وهانذا قمت بتوزيع القرابين وفق طريقتي ، أردتُ لزوجتي وَدَاعًا لائقًا بها، تكريمًا خالدًا يلامس حاجة الفقراء واليتامي والمحتاجون "، عزاء يتذكرها الناس ويتضرعون لها بالدعاء والغفران " .