محنة الأفارقة في اليمن.. العنف بوصفه مرآة للتمايز الاجتماعي أو سياسة ممنهجة
طفحت على السطح في الفضاء الافتراضي اليمني في هذه الأيام مشكلةُ الأفارقة على نحوٍ لا إنساني، ويرافقها خطابٌ عدائي ينطوي على عنصريةٍ وجوهرانيةٍ ويبرِّر العنف الحاصل والذي قد يحصل بحقهم.
هذه نقطة تستحق التأمل لفهمها وموضعتها ومعرفة الجذور التي نشأت منها، وردّها إلى سقفها السياسي الأداتي.
وليست هذه المرة الأولى التي تجد فيها جاليةٌ أفريقية – حبشية في الغالب – نفسها ضحيةً لممارساتٍ عنيفةٍ بلا نصير.
يتعرض الأفارقة في سنوات الحرب هذه على امتداد اليمن (في أبين ولحج ورداع ومأرب وحجة) لعنف منتظم واستغلال لحالتهم يصل إلى حد توظيفهم في آلة الحرب اللعينة . إذ تمثل الحوثية على وجه الخصوص، بوصفها سلطةً وجغرافيا، ميدانًا لمثل هذه الانتهاكات.
لفهم النظرة تجاه الأفارقة علينا اولاً النظر في العلاقات الاجتماعية اليمنية اليمنية ومحددات التمايز وسقفه.
اليمن بين التمايز والعنصرية
ولا يخلو مجتمعٌ من التنابز والفرز الطبقي، لأن العلاقة الإنسانية تتأسس على الصراع، كما تصوِّرها الديانات والمصادر الأخلاقية والفلسفية. وهذه المصادر تقدِّم تصورها لكبح هذا الصراع وتحويله إلى تعاونٍ بمقتضى الحاجة الاجتماعية لتحقيق الفلاح والرخاء ومواجهة التحديات.
والمجتمع اليمني، كغيره من المجتمعات، ذو بناءٍ هرمي تختلف حدّته بحسب المناطق الجغرافية، ونمط الإنتاج، وفائض الثروة، وعلاقات القوة.
لم تكن العلاقة بين القبائل اليمنية علاقةً عنصرية، بل علاقة تفاضلٍ وادعاءِ شرفٍ ومجدٍ وقوة. وكان العنصر – بوصفه نواةً للتميّز والتمايُز – ينصبُّ دائمًا على "الآخر الخارجي" في مجتمعٍ منغلقٍ على ذاته تجاه الخارج، ومنغلقٍ داخليًا بفعل تناثر الكتل السكانية في طبوغرافيا شديدة التعقيد والتنوّع أنتجت ثراءً ثقافيًا داخل نسيجٍ مشترك.
ليس اللون هو الفاصل في التمايز أو ليس بالضرورة أن يكون اللون دون سواه، بل عوامل القوة.
لكن جغرافيا البلاد ومعملها التاريخي جعلاها تنفتح وتستقبل الآلاف الذين أصبحوا جزءًا من نسيجها الاجتماعي والثقافي وبنية السلطة فيها.
لعل الهاشمية كانت من كسرت توازن التناظر بين القبائل حين أضافت عنصر الدين إلى معادلات التفاضل، فأنشأت طبقةً جديدة أعمق وألصق بالقداسة من طبقات العنف الاجتماعي.
وتوزّع هذا العنف رأسيًا وأفقيًا، وتكثّف على الفئات الهشّة (الأخدام، المزاينة، والبرّانيين).
القبيلة – بطبيعة معاشها – ظلت تؤسطر الشرف وتجعل منه محور التفاضل، وجعلت "المحارب/القبيلي" على رأس السلم الاجتماعي، كما يشير أستاذ علم الاجتماع الشرجبي وآخرون في دراسات عديدة. ولهذا وقع ازدراء المهن، لأن الجهد المعترف به ليس الخدمة العامة، بل المشاركة في الحرب وحفظ شرف القبيلة.
يتألف الشرف من عوامل كثيرة، أحدها العزلة والتقوقع وصولا إلى انعزاليّة ممجِّدة لعدم الاختلاط والاحتواء تزدري الطريق ومن يسكن بقربها أو مورد الماء. فرفض الاختلاط بالآخرين ينبع من هذا التفكير.
لم تفلح التعاليم الدينية في تهذيب هذا الصراع، بل أضافت إليه بارودًا آخر قدّمه الطالبيون.
ويصبح التمايز على هذا الأساس أكثر حدةً في المدينة، حيث تتجمع السلطة السياسية والدينية فتختلط لها هرماً اجتماعياً معاكسا لفضاء ما دون المدينة. ففي المدينة يتمسك أبناء الفئات المشتغلة بالدين بالسلطة السياسية والدينية ناصبين شرفهم على اسس سلالية، بينما يكون الوضع مختلفًا في الريف حيث السلطة الاجتماعية بيد القبيلة، والشيخ هو مجسّدها، وتكون السلطة السياسية/الدينية ثانوية، كما يشير استاذ علم الاجتماع المقرمي. فالسيد في المدينة علويّ، لكنه في القرية "ابن مقذية" أو بائع طلاسم ومحرر حروز.
بمعنى آخر: محددات السيادة والشرف متغيرة وليست ثابتة ومتعددة مكانياً.
في هذه المحنة الاجتماعية، تقع محنة الأفارقة على نحوٍ خاص. ليس لأنهم سُود البشرة فحسب او في المقام الأول، بل لأنهم "أغيار" من خارج النسيج الاجتماعي الذي ينظر إلى الفرد من خلال شبكة علاقاتٍ أسرية معقدة، لا ينال فيها الفرد الاعتراف لذاته، بل للأسرة والقبيلة التي ينتمي إليها، لأن المسؤولية جماعية في الأصل.
خففت الجمهورية من حدّة هذا الفرز ومنحت المهمشين فرصًا أكبر، غير أن الدولة الحديثة أضافت أزمةً أخرى تمثلت في القيود القانونية التي فُرضت على الأجنبي إلى جانب القيود الاجتماعية.
العنف الداخلي ينصرف نحو البراني
منذ عقود واليمن تستقبل لاجئين أو عابرين أفارقة. وتختلف معاملة الناس لهم بقدر ما يسود من عنفٍ داخل المجتمع اليمني – أي عنف اليمني تجاه اليمني – ومن ناحية أخرى تبعًا للمراوحة بين الحس الإنساني والحذر الاجتماعي الذي أشرنا إليه أعلاه.
في هذه اللحظة يمكننا التأكيد أن العنف الاجتماعي والسياسي – أو الاجتماعي ذو القوادح السياسية – قد تعمّم في اليمن، وبذلك صار عنفًا لا يستثني أحدًا، خصوصًا الفئات التي بلا درعٍ من الحماية العسكرية أو الاجتماعية أو السياسية. بل إن إحدى وسائل الحماية، أي المجتمع المدني والمنظمات، وقعت هي الأخرى في دائرة العنف، وربما أسهمت في إعادة إنتاجه، كما نرى في حالة المنظمات الدولية التي أصبحت مخترَقة بالحوثيين أو المتحوثين أو المتواطئين لمصالح مادية، حتى غدت ذليلة تجاههم.
تمارس الجماعة الحوثية ألعابًا ديموغرافية خطيرة لتنفيذ جرعاتٍ من العنف. وسلوكها يشير إلى أنها تنفّذ كاتالوجًا استعماريًا يوظّف كل متناقضات المجتمع ويستغلّها لتكريس سلطتها عبر أوراق التهديد.
الأفارقة .. ترس غير اختياري في الحرب الحوثية
كانت هناك تحذيرات مبكرة من العلاقة الشائكة التي نسجتها الجماعة الحوثية مع الجالية الأفريقية في اليمن. وكلمة "جالية" تنصرف هنا أساسًا إلى المهاجرين الأفارقة اللاجئين أو العابرين الذين ابتلعتهم آلة الحوثيين الحربية.
ومن منطلقات سلطوية وثقافية اجتماعية تتعامل الحوثية مع الأفارقة. القوة الغاشمة تهدر ارواح ودماء الناس. لكنها تستوحش أكثر تجاه الغريب الأعزل. لأنه إما يكون صالحاً لجلب منافعها أو على أقل تقدير رهينة يمكن المقايضة به أو استخدامه كورقة ضغط سياسية أو يصبح في عداد المهدورين كرامتهم.
نعم إمكانات البلاد محدودة في ضبط الهجرة غير الشرعية ومحاولة إعادة من قدم إلى اليمن بحراً. لكن هذا لا يعني النيل منهم والزج بهم في المهالك. وهناك تنصل من المسؤولية بين مختلف كانتونات الحكم في اليمن وعلى رأسهم السلطة الحوثية وبين المنظمات الدولية.
في هذا الصدد، خسر المئات من الأفارقة حياتهم في مأساة "مبنى الجوازات" في صنعاء الذي كان يغص بمئات الأعداد منهم وفي ظروف غير إنسانية انتهى الأمر إلى أن شبّ حريق في عنابرهم والأبواب موصدة عليهم بعد تنازع مع القوات المعنية بحراستهم ما أودى بعشرات وأصاب مئاتٍ، وسط تواطؤٍ فاضح.
توظيف المهاجرين الأفارقة للايذاء بدول الجوار
لكن الجماعة اهتدت لاحقًا إلى إمكانية توظيفهم، كما تفعل دولٌ أخرى في البحر المتوسط بالمهاجرين غير الشرعيين، لتستخدم ورقة الابتزاز وتثبّت أقدامها.
استيطان اعداد غفيرة من الأفارقة المنطقة الحدودية بين اليمن والسعودية يتجاوز الوضع الاعتيادي الخاصة بمهاجرين لا يرون اليمن أكثر من محطة عبور. بل أن الاستيطان هذا في ظل سلطة حوثية تتحكم أشد التحكم بمحافظة صعدة يثير الاسئلة. تتحدث تقارير إعلامية أن صعدة أصبحت منطقة مغلقةً حتى على بقية اليمنيين فكيف لغيرهم ما لم يكن ذلك برسم الإرادة الحوثية واستغلال حاجة هؤلاء وتوظيفهم في تجارة غير مشروعة أو لتشكيل عبءٍ ديمغرافيٍ في منطقة حدودية.
9/
تخاذلت المنظمات الدولية عن تقديم إحصاءاتٍ دقيقة وإنذارٍ مبكرٍ حول مصير هؤلاء المتدفقين، بل تواطأت بعضُها بجعل مأساتهم تبدو "مأساةً سعودية" فقط على الحدود اليمنية.
هناك سقفٌ للاتجار بهذا الوضع الهش، والحوثية بطبعها لن تقبل أن يشاركها أحد الكعكة. ومسألة التهريب والاتجار بالممنوعات تقع في صميم تكوين الحركة الحوثية، لأنها جماعة نشأت من الظل وباقتصاد الظل – أي التهريب. سبق أن كتبت عن أسباب دفاع الجماعة الحوثية وسلطة صنعاء عن تجارة الأسمدة والمبيدات السامة في اليمن.
التحريض المدروس تجاه الأفارقة
الصفقة التي تجعل الأفارقة "مقاولًا من الباطن" لأنشطة الحوثية تجاه السعودية صفقةٌ هشّة وقابلةٌ للانفجار في أي لحظة. وربما انفجرت الآن
انفجرت لأنها لم تمض كما تشتهي الجماعة الحوثية ولأن العمل تطلّب تنظيماً يخرج من يدها ويدخل فيه فاعلون آخرون في القرن الافريقي. الأكيد أن الجزء الاخر من الصفقة يدور حول حدود نفوذ الجماعة الحوثية في القرن الأفريقي.
10/
أشكك كثيراً في عفوية التحريض. أرى أنه من صنع الجماعة الحوثية التي تريد إعادة ضبط نشاط المقاول من الباطن. في كل الأحوال، سيذهب أفراد ضحايا لهذا الجحيم من الصفقات.
لكن استقبال المجتمع للعمل الدعائي الحوثي يثبت مقدار السذاجة والعدوانية الاجتماعية التي تغفل عن مكامن أخرى، أهمها تعظيم خطر "الآخر الخارجي".
لكن المفارقة أن هذا التعظيم يحدث في منطقةٍ تسيطر عليها سلطةٌ غاشمة، فَلِمَ التحذيرات إذن؟ هذا إن لم تكن تمهيدًا لشرعنة حملةٍ قمعيةٍ ستنفذها الجماعة بحق المهاجرين الأفارقة؟
ا