اللامنتمي غربة الوعي وسؤال الانتماء ..

Author Icon ابتهال عبد الوهاب

نوفمبر 8, 2025

اللامنتمي كائن يقف على حافة العالم، لا داخله ولا خارجه، كأنه شاهد على مسرح لا يشارك في تمثيله، بل يكتفي بتأمل عبث أدواره وتكرار مشاهده.

هو ليس متمردا بمعناه الصاخب، بل نغمة شاذة في لحن جماعي لا يحتمل الاختلاف. يسمع ما لا يقال، ويرى ما تخفيه الملامح، ويشم رائحة الزيف في العطر المنمق للحقيقة.
اللامنتمي كائن يسكن تخوم الوعي، يقف بين العالم وظله، لا ينتمي إلى الجموع ولا يخاصمها، بل يتأملها من مسافة لا يقطعها سوى الحنين إلى معنى أعمق.
هو ذلك الذي رأى كثيرا حتى أعمته الرؤية، وأحس بما يفوق طاقة القلب على الإحساس، فعاش كمن يحمل في صدره عينا لا تنام.
العالم بالنسبة إليه ليس مسرحا للعيش، بل مشهدا للفهم. يرى البشر وهم يركضون في دوائر الطمأنينة الزائفة، يلهثون وراء ما يسكت السؤال لا ما يجيب عنه.
بينما هو، كلما لامس يقينا، انفتح أمامه فراغ جديد من الشك، فيغدو الوعي عنده لعنة البصيرة لا نعمة الفهم.
اللامنتمي لا يختار غربته، إنها تلتصق به كما يلتصق الظل بالجسد، لأنها نتيجة وعي يفيض عن طاقة الاحتمال. حين يرى ما وراء الكلمات، ويدرك أن البديهي ليس بريئا، وأن العادي ليس سوى قناع للخواء، تبدأ مسافة الصمت بينه وبين العالم تتسع، حتى يصير الكلام عبئا، والمخالطة تمثيلا، والسكوت عزاء مؤقتا.
هو ليس ضد الناس، بل ضد البلادة التي تسمى انسجاما. لا يحتقر الجموع، بل يشفق عليها لأنها تلوذ بالألفة من خوفها من الحقيقة. يرى الزحام في الطرقات دليلا على وحدة أعمق، ويرى الضحك الجماعي ستارا للهشاشة الجماعية.
اللامنتمي لا يعادي المجتمع، لكنه يعجز عن أن يذوب فيه. فالحياة حوله مسرح للتماثل، والاختلاف جريمة تغفر فقط إن كانت بلا وعي.
أما هو، فاختلافه وعي ناصع، لذلك ينفى لا بجسده بل بروحه.
يحيا بين الناس جسدا، لكن قلبه معلق على حافة الغياب، يبحث عن صدى يشبهه، فلا يجد إلا رجع أفكاره يعود إليه أكثر وحدة مما خرج.
إنه لا يبحث عن معنى، بل يتألم من فرط المعنى. فكل لحظة عنده تطل على سؤال، وكل جمال يوقظ في قلبه ندبة من الوعي بأن هذا الجمال زائل.
هو مثل مرآة صافية في عالم يكره الانعكاس الصادق. لا يمكن خداعه، لكنه يدفع ثمن بصيرته عزلة باردة، وصدقا لا يحتمل دفء الكذب.
اللامنتمي إذن ليس غريبا عن العالم، بل غريبا عن التواطؤ معه. إنه لا يختار عزلته، بل تختاره هي، كما تختار الحقيقة من يجرؤ على النظر في وجهها بلا قناع.
وحين يختلي بنفسه، لا يفعل ذلك زهدا في الناس، بل توقا إلى الصدق، إذ يعرف أن الزيف لا يضج فقط في الأسواق، بل في الضمائر أيضا.
هو الذي يرى التصدع في جدار العادي، ويصغي إلى صمت الحقيقة وهي تدفن تحت ضجيج الرأي العام.
إنه شاهد لا يصدق، وضمير لا ينام، وروح تتعذب لأنها ولدت في زمن لا يحتمل الوعي.
هو ابن الحيرة، وسليل السؤال، وصديق الضوء حين يخنق الليل المعنى.
يرى الجمال في الصدع، والاكتمال في النقص، والمعنى في التناقض.
فهو لا يهرب من الحياة، بل من ضيقها، لا يكره الواقع، بل يخشى أن يصبح مثله.
ولذلك، لا ينقذ اللامنتمي سوى الكتابة، فهي وطنه المؤقت، صمته الناطق، ووسيلته الوحيدة ليقول للعالم:
لم أخطئ حين رأيت أكثر مما ينبغي، لكني دفعت الثمن غربة بحجم الحقيقة.
اللامنتمي ليس هشا كما يظن العابرون، بل شفاف إلى حد الألم، يرى ما وراء الوجوه والعبارات، ويدرك هشاشة ما يسمى الطبيعي.
ولأنه يرى الحقيقة عارية، يصاب بما يشبه العمى من شدة الضوء.
اللامنتمي شاهد أخير على أن الوعي، مهما كان موجعا، هو أقدس أشكال الوجود.
اللامنتمي ليس نهاية، بل سؤال مفتوح:
هل تحتمل الحقيقة بلا وهم؟
وهل يمكن للوعي أن يعيش بلا قناع؟
ربما لا يملك الإجابة،
لكنه يظل الدليل الوحيد على أن الإنسان، مهما غرق في العادة،
ما زال قادرا على أن يستيقظ ولو وحيدا في وجه الحقيقة.
ولأنه لم يجد في العالم مكانًا يليق بوعيه، صار يبحث عن وطن في داخله،
وطن لا تحده الجغرافيا، بل يخلقه الحبر والفكر والصمت
.ولست أتحدث عن اللامنتمي من بعيد، بل عنه فيّ، لأنني أنا ذلك الكائن اللامنتمي الذي اخترته وطنا لذاتي يسكنني واسكنه
كل ما كتبته عنه إنما هو سيرة الوعي في داخلي، فأنا اللامنتمي الذي يمشي على حافة الضوء. وكلما حاولت تعريفه، ازددت يقينا أنني هو.

زر الذهاب إلى الأعلى