رصاصة الكلمة
ليست كل الرصاص من معدنٍ ونار؛ فبعضها يُصاغ من الحروف، ويُحشَى في أفواهٍ لا تزن كلامها. تُطلِقها الألسن بلا حساب، فتخترق الأرواح قبل أن تبلغ الأجساد، وتترك وراءها ندوبًا لا تُرى بالعين، لكن أثرها يبقى طويلًا في القلوب والذاكرة.
وفي أحيان كثيرة، يكون ألم الكلمة أعمق من ألم السلاح، لأنها تُصيب مكانًا لا يلتئم بسهولة؛ تُصيب الروح ذاتها، وتبقى عالقةً في مساحاتٍ من الداخل يصعب الوصول إليها أو إصلاحها.
الكلمة حين تُقال بلا وعي قد تزرع كراهية، وقد تُشعل حربًا لا تُطفئها أنهار ،وأما حين تُقال بحبّ، فهي بذرة سلام تُنبت في القلوب قبل الأرض؛ تُنعش العقول وتُلين الصدور وتفتح أبواب التفاهم.
الفرق بين الثمرة والرصاصة أحيانًا حرفٌ واحد، ونبرة واحدة تغيّر مسار يومٍ كامل، بل ومسار حياةٍ كاملة،كم من خلافٍ أُطفئ بنظرة رقيقة وكلمةٍ هادئة، وكم من فتنةٍ اشتعلت لأن شخصًا قال جملة حادّة في لحظة غضب، فتحولت تلك اللحظة إلى سلسلة من الانقسامات التي لا تنتهي.
في يمننا الحبيب تاهت المعاني بين الميكروفونات والمنشورات، حتى صارت بعض الكلمات طلقاتٍ عشوائية في سوقٍ مكتظّ. يظن قائلها أنه يمارس حريته، بينما هو يسلب الآخرين حقهم في الأمان. رأينا كيف تحوّل الخطاب إلى متاريس، وكيف صارت الشتيمة راية، وكيف غابت عن ألسنتنا تلك الكلمات التي كانت تجمعنا: «أخي»، «يا صاحبي»، «يا زميل». غابت أيضًا قصص الطفولة والضحكات التي كانت تربط أجيالًا ببعضها، وحلّ مكانها تراشقٌ يجهض كل بذرة تفاهم. حتى في الأحياء الصغيرة التي كانت تجمع المختلفين في كنفٍ واحد، صار الناس يتحسّسون كلماتهم، يخشون أن تُفهم كإشارة انتماء، لا كبسمة حسن نية.
وما زاد الطين بلّة أن وسائل التواصل الاجتماعي صارت ساحاتٍ مفتوحة للشتيمة والاتهام، وأصبحت منصّاتنا—التي كان يفترض أن تقرّب المسافات—سببًا في توسيع الفجوات. فهناك من يكتب كلمة عابرة وهو يظن أنها مزحة، لكنها تصل إلى قارئٍ آخر كإهانة جارحة، وتستحيل شرارة في هشيمٍ من التوترات. هكذا تتشكل الفجوات؛ لا بالبنادق دائمًا، بل بالكلمات التي تُطلق من أصابعٍ خفيفة لا تفكّر بما تصنعه.
أخطر ما في الكلمة ليس صوتها فحسب، بل أثرها حين تستقر في الوجدان. فكم من طفلٍ كبر وهو يحمل جرح كلمةٍ سمعها في صغره؟
وكم من أمّ لم تبرأ من تكرار عباراتٍ غرست في قلبها حسّ النقص؟ وكم من مجتمعٍ تشقق لأن أبناءه صدّقوا أكاذيب الكلمات الغاضبة؟
كلمة واحدة قد تصنع صديقًا أو عدوًّا، وقد تكون الفارق بين الرجاء واليأس. لا تقلل من قوة كلمة خرجت بغير تبصّر؛ فقد تكون بذرة اقتتالٍ أخطأوا الهدف فيها فاستقرت في ضمير الوطن، فصارت حكاية تُروى للأجيال، كمأساة بدأت بحرف وانتهت بدم.
ولأن المجتمع يُصنع من الكلمات التي تُقال داخله، فإن مسؤوليتنا تجاه اللغة ليست مسؤولية أدبية وحسب، بل مسؤولية تربوية واجتماعية. فنحن نُنشئ أبناءنا اليوم في عالم يسمعون فيه أكثر مما يرون، ويستقبلون الكلمات قبل المواقف. الطفل الذي يسمع ألف كلمة طيبة يختلف عن طفل يسمع ألف كلمة جارحة.
الأول يتعلم احترام العالم، والثاني يتعلم الخوف منه. ومن هنا تأتي مسؤولية الأسرة والمدرسة والشارع؛ فكل كلمة يسمعها الإنسان في صغره تصبح جزءًا من قاموسه الداخلي حين يكبر.
نحتاج أن نعيد للكلمة هيبتها. نغسلها من الغبار الذي علِق بها في زمن الضجيج، ونلبسها لباس الحب والاحترام. فالكلمة ليست وسيلةً لكسْب الجدال، بل جسرٌ لبناء الفهم، ومفتاحٌ لفتح أبوابٍ قد أُغلقت. كلمة طيبة تُخفف عن مُنكسر، وعبارة تراعي المشاعر تُنقذ موقفًا كان سيؤول إلى عراكٍ لا مصلحة لأحدٍ فيه. وفي المجتمع اليمني الذي أثقلته السنوات، صارت الكلمة الطيبة ضرورة لا ترفًا؛ فكم من قلبٍ مُتعَب لا يحتاج إلا إلى جملةٍ واحدة كي ينهض، وكم من يدٍ ترتجف يمكن أن تثبتها كلمةٌ مطمئنة.
إن الكلمة حين تصدر من قلبٍ نقي، تشبه المطر على أرضٍ عطشى؛ تُحيي ولا تُغرق، وتُثمر ولو بعد حين. هي وعدٌ صادق مع النفس بأن يكون القول فعلًا طيبًا في وجه المجتمع.
من يتقن فنّ الكلمة، يتقن فنّ العيش مع الآخرين، ومن يُحسن اختيار عباراته، يفتح أمام نفسه أبوابًا من الاحترام والثقة لا تُفتح بالقوة ولا بالمال. فالكلمة ليست ترفًا لغويًا، بل حياة كاملة من الأخلاق والإحساس.
يا أبناء وبنات اليمن: الكلمة أمانة. من يملكها فلا يجعلها سلاحًا يبدد به حياة الآخرين.
لا تجعلوا أفواهكم معاقل لإطلاق الرصاص، ولا تصنعوا من خطابكم نارًا تُحرِق البيوت والقلوب. فالوطن الذي أنهكته الصراعات لا يحتمل أن يُصاب برصاص الكلمة أيضًا. لنسمع أكثر مما نتكلم، ولنتعلم أن نزن الكلام قبل أن نرميه في فضاءٍ قد لا يرحم. فالصمت أحيانًا أقرب إلى الحكمة من كلمة متهوّرة، والصوت الهادئ أقدر على الإصلاح من الصراخ.
دعونا نُخرج من أفواهنا كلماتٍ من نور، لا نطلق رصاصًا من ظلام. لتكن كلمتنا بلسمًا لا جرحًا، جسرًا لا متراسًا، دعوة لا قطيعة، نكتب ونقول ونسمع، لا لننتصر على بعضنا، بل لننتصر على الكراهية التي تُريد أن تبني بيننا جدرانًا.
لنستبدل السخرية بالوُدّ، والاتهام بسؤال يفتح متسعًا للحوار،فكل باب يُطرق بلطف يُفتح، وكل قلب يسمع كلمة طيبة يميل نحو المصالحة.
ولنتذكر أن التاريخ لا يرحم من أطلقوا كلماتٍ دمّرت أمال شعوبهم، ولا ينسى من صنعوا بلاغة أعادت وطنًا إلى نفسه. فرب كلمة تُعيد وطنًا إلى ذاته، كما ربّ رصاصة تضيع أجيالًا بأكملها.
لنجعل الكلمة في يمننا معول بناء، لا هدمًا، ولنكتب بها مستقبلنا بطيبة تليق به. فالوطن لا يُشفى بالرصاص، بل بالكلمة الصادقة؛ ولا ينهض بالصراخ، بل بالحوار الذي يُنبت في الأرض أملاً جديدًا، ويعيد للإنسان إنسانيته التي أرهقها الصراع والضجيج.
ولنعلم جميعًا أن بداية السلام كلمة، وبداية النهضة كلمة، وبداية التعافي كلمة… فلماذا لا تكون هذه الكلمة من أفواهنا نحن، أبناء هذا البلد الذي يستحق منّا لغة تُشبه حقيقته: طيبة، صابرة، قادرة على النهوض كل مرة من تحت الركام؟