أغانٍ في الزحام... وجه اليمن الحي

Author Icon الدكتور / نادر السقاف

نوفمبر 18, 2025

لم يكن في الباص شيء استثنائي في ظاهره. باص أزرق يبدو حديثاً، يسير ببطء في شارع مزدحم، تنبعث من نوافذه موسيقى تراثية يمنية معروفة، ويعلو من داخله ضحك متقطع، وتساؤلات يومية عادية. لكنّ شيئًا في داخله، في تركيبته، في وجوه من فيه، جعل هذا الباص يبدو لي كأنّه يمن صغير يتحرّك وسط الفوضى، بعناد يشبه الحياة ذاتها.
لا أتذكر في هذه اللحظة إلى أين ذهب خيالي أو هل رسمت في مخيلتي صورة ليمن جديد يحتضن كل أبنائه وبناته، لكنني أتذكر المشهد جيدًا. شباب وشابات، في مقتبل العمر، كانوا قد اجتمعوا بعد ثلاثة أيام من العمل والتفكير والتخطيط لرسم ملامح ورؤية لمستقبل أفضل لليمن، مستقبل لا يستثني أحدًا، ولا يُقصي نصف المجتمع.

كانت الوجوه متعبة قليلًا، لكن العيون يقظة. حديثهم لم يكن سطحيًا. كانوا يناقشون مشاريع صغيرة، أفكارًا لورشات عمل، تدريبات قادمة، ومبادرات تنموية في الأحياء والمجتمعات. كانوا يتحدثون وكأنهم قرروا أن يكونوا في قلب الحركة لا على هامشها، رغم كل الصعوبات والمخاطر التي من الممكن أن يوجهوها.
في وقت العمل، كانت وجوههم تتغير. النبرة تصبح أكثر تركيزًا، التفاصيل تُناقش بصرامة ناعمة، كل فكرة تُمحص، كل احتمال يُراجع. لم يكن هناك ترف الدلال، بل إصرار على الإنجاز، على تحويل الفكرة إلى خطة، والخطة إلى واقع، ولو بموارد بسيطة. شعرت أنهم لا يعملون لأن أحدًا طلب منهم ذلك، بل لأنهم يريدون ترك أثر، يريدون قول شيء من خلال ما يفعلون.
لكن ما إن يحين وقت الراحة – استراحة قصيرة، أو لحظة عبور من مشروع إلى آخر – يتغير الجو بالكامل. يصبح الباص مكانًا للانفلات الجميل. أحدهم يبدأ بتشغيل موسيقى خفيفة تراثية، أو أغنية من تراثنا العابق بالتاريخ، فتاة تهمس بكلمات الأغنية، شاب يواكب النغم بالتصفيق، وآخر يضحك من دون سبب واضح. لا أحد يطلب الإذن للفرح، ولا أحد يعتذر عن خفة دمه. وكأنهم يعلنون أن الراحة ليست انقطاعًا عن الجدية، بل استعادة لها بوجه آخر: وجه الفن، الموسيقى، التنكيت، والحياة التي لا تزال ممكنة.
ذلك التوازن كان يدهشني: كيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا جادين، عميقين، دؤوبين في العمل، ثم في لحظة، يتحولون إلى نهر من البهجة والعفوية؟ الجواب لم يكن فيهم فقط، بل في السياق اليمني ككل. ففي بلدٍ تعلّم فيه الناس أن يعيشوا وسط آلاف التحديات اليومية، باتوا يعرفون بالفطرة أن الفرح ليس نقيض الجدية، بل شرط للاستمرار.
ما كان يحدث في ذلك الباص لم يكن مجرد تنقّل عابر، بل كان أشبه بجلسة تخطيط صغيرة لبناء وطن. كل واحدٍ فيهم يحمل مشروعًا صغيرًا، حلمًا خاصًا، محاولة لمقاومة العجز. لم يتحدثوا عن السياسة، ولا عن المشكلات الكبرى، لكنك كنت تشعر أن كل كلمة، كل نكتة، كل ضحكة، هي شكل من أشكال المقاومة.
أحدهم كان يتحدث عن مفهوم الاقتصاد الأزرق وآخرين قرروا ابتكار مسمى جديد وهو الاقتصاد الوردي الذي لا يعني الأحلام الوردية، بل يُشير إلى اقتصاد نسوي قادر على إحداث تغيير حقيقي، وآخر عن بناء قدرات نصف المجتمع بأن يكون منتج وفعّال، وآخر يشرح أهمية التركيز أيضاً على أهداف مستقبلية تتمحور على صياغة المناهج التعليمية بأن تكون عامل داعم، وما هو دور الإعلام بالتعريف بسردية تتحدث عن جمال، وقدرات اليمنيين، واليمنيات. تنوّعت أفكارهم، لكن كان يجمعهم يقين عجيب بأن التغيير ممكن – ليس من الأعلى، بل من داخل كل فرد فينا.
لم يسألهم أحد أن يكونوا هكذا. لم تنتظرهم كاميرا، ولم يكن هناك ممول يشترط عليهم شيئًا. ومع ذلك، كان في الباص روح من الالتزام الداخلي: التزام تجاه أنفسهم، وتجاه بلدٍ يحتاج إلى طاقة مثل طاقاتهم كي ينهض.
كل ذلك، وسط الطريق، في باص أزرق يمشي ببطء وسط الزحام.
ذلك الباص، بصخبه، بخفته، بجدّيته، كان صورة نادرة لليمن الذي لا يُرى. اليمن الذي لا تسكنه فقط ملامح الوجع، بل طاقات التجاوز. شباب لا ينتظرون الخلاص من أحد، بل يصنعون لأنفسهم منافذ صغيرة للضوء. في عيونهم لمحت ذلك اليقين الجميل: "نستحق الحياة، وسنصنعها ولو بأبسط الأدوات".
وأنا أراقبهم، شعرت أن الخطأ ليس فيهم، بل في عادات وتقاليد أو ربما نظام لم يُفسح لهم المجال. في كل قرار غاب صوتهم، وفي كل رؤية لم يُرَ فيها حضورهم، في كل من اختصرهم بكلمة "ضائعين" أو "متمردين".

هؤلاء الشباب لم يكونوا بحاجة إلى توجيه، بل إلى ثقة. إلى من يصدق أن بوسعهم أن يبنوا، وأن الفن ليس ترفًا، بل طريقة حياة. أن الموسيقى ليست هروبًا، بل وسيلة للبقاء.
في تلك اللحظة، أدركت أن كل ما يُقال عن هذا الجيل – من أنه ضائع، أو غير مهتم، أو بلا رؤية – ليس سوى انطباعات من لم يجلس معهم، ولم يستمع إليهم.
أما أنا، فرغم إيماني الشخصي بقدراتهم، فقد رأيت في الباص الأزرق ما تجاوز كل تصور: رأيت النور يمر من النافذة في الجدار، وأيقنت أن كل ما يحتاجونه ليس التوجيه، بل أن تُفتح لهم الأبواب، وأن تُمنح لهم الأدوات، لا أن يُملى عليهم ما يجب أن يفعلوه.
الوجوه ستتغير، والزمن سيتبدل، لكنني سأحتفظ في ذاكرتي بذلك الباص الأزرق. سأراه كلما سمعت موسيقى تصدر من بيت متواضع، أو رأيت شابًا أو شابة تبدوا على محياهم التعب لكن مع ابتسامة أمل متواضعة، أو زميلة في طريق العمل المجتمعي تتحدث بثقة عن مشروعها المستقبلي. سأراه كلما ابتسم أحدهم في الزحام، أو صافح آخر دون أن يعرفه، فقط لأنه يشاركه الحلم ذاته.
لست مثاليًا، ولا أرى الواقع بعدسة حالمة.

أعرف أن الطريق طويل، وأن العراقيل كثيرة. لكنني أعرف أيضًا أن هذا الجيل يحمل قدرة حقيقية على إعادة بناء اليمن من الأساس، لا على طراز الماضي، بل على نغمة جديدة.
ذلك الباص الأزرق أراني نور الشمس من جديد بعد أن كانت السماء ملبدة بغيوم كثيفة. كان يتحرك ببطء، مثل هذا الوطن. كان يعلو فيه الضحك كما يعلو فيه الوجع. وكان، رغم زحامه، يسير للأمام.
اليمن، كما رأيته في ذلك الباص، ليس بلدًا منهكًا فقط، بل بلدٌ يختبئ فيه أملٌ عميق، حيّ، يُغني وسط الزحام، ويخطط في صمت، ويبني شيئًا جديدًا بصبر جميل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى