موقع أسطنبول في الشأن اليمني بعد اغلاق قناة بلقيس
إغلاق قناة يمنية في المهجر يعني تقليص هامش الهواء المتنفس إعلامياً لليمنيين. قناة بلقيس التي تتبع السيدة توكل كرمان وتبث من إسطنبول تعلن إغلاقها وتوقف بثها فجأة وفي ظروف قهرية.
هذا خبر حزين على الصعيد الإنساني، إذ بتوقّف القناة سيفقد أصدقاء وظائفهم ويدخلون في أزمات معيشية.
يعمل في القناة ما يقارب مئة شخص. وكانت قناة مشاغبة سياسياً حادة المزاج وقريبة من الناس وابتكارية إلى حد كبير في تنوع البرامج، وعبرها تهيّأ وانطلق جيل من الشباب الإعلاميين في مختلف مهن العمل التلفزيوني، ولم يكونوا من خطٍّ تحريري أو نسقٍ أيديولوجي واحد وهذه تحسب للقناة التي وازنت بين الكفاءة والولاء.
كان العمل في القناة قائماً على أبعاد إنسانية وتضامنية في اوجه عديدة ورقبة توكل سدادة. لقد كانت توكل -بقناتها- ملاذاً إنسانياً ومهنيا لكثيرين ممن ضاقت لهم الحياة ولم تستوعب القوى السياسية والاجتماعية أفكارهم أو نزقهم.
كانت التيار المضاد فكريا واعلامياً حتى داخل التيارات الاسلاموية. لانها كانت معملاً لاختبار مدارات الليبرالية داخل التفكير الاسلاموي.
لكن إغلاق القناة سينعكس على الهامش المتاح لليمنيين في الاعتراض والصراخ في وجه المشاريع المتناقضة. فضلا عن ان هذا الإغلاق العنيف في مفاجأته يشير إلى هشاشة العمل الإعلامي أو السياسي في المنفى ومن داخل المنفى، لأنه في المحصّلة مشدود إلى سهم مؤشر تقلبات السياسة الخارجية للبلد المستضيف أو لتقلبات الحياة السياسية الداخلية لهذا البلد.
لم تكن الحياة داخل القناة مثالية بالطبع. لكنها استوعبت افكاراً وافراداً أكبر مما رفضت وأقصت. وكان لا بد من مراجعة اداء وترشيد إشراف وادارة وفصل الذاتي عن الموضوعي لمراعاة الاستمرار.
ان اغلاق القناة من حيث كانت تبث، يدفع إلى طرح سوال موقع أسطنبول ودورها في الشأن اليمني.
تؤدي إسطنبول دوراً مركزياً إعلامياً ومنحت بعض اليمنيين باعا طويلا في النفوذ والتأثير والأمان الفردي من صروف الدهر السياسية، ومكّنت المقيمين والنشطين منهم من القدرة على التعبير التأثير في المشهد السياسي والثقافي والإعلامي اليمني على نحو لافت.
واستطيع القول بكل ثقة إن أحد أهم موجّهات الرأي العام اليمني تتبلور في النخبة الإعلامية اليمنية في إسطنبول، وعلى رأس أدوات التأثير هذه قنوات التلفزة، وفي مقدمتها قناة بلقيس.
لم أظهر على قناة بلقيس منذ سنوات لانشغالات عديدة، ومع ذلك حرصت على متابعة بعض برامجها التي انتقي منها ما ارغب وأتابع قراءة كتابات بعض الكتّاب ومنهم الباحث محمد صلاح.
لكنها أنجزت القناة برامج نوعية وقدّمت للمشاهد والباحث والدارس ذخيرة مرجعية أرجو الحفاظ عليها وجعلها متاحة للجمهور اليمني وغير اليمني.
إغلاق القناة على وجه السرعة لا يمكن أن يخرج عن الدوافع السياسية، وبالتأكيد لدور بعض العاملين فيها أو لدور وموقع توكل كرمان في المعارك السياسية الإقليمية والدولية أثرٌ في ذلك.
وهذا يطرح سؤالاً يخص بقية القنوات اليمنية التي سيتوجب عليها الموازنة بين الرسالة المطلوب إنتاجها وبين التفاعل الشخصي لمالك القناة، وحول المسافة الهشّة بين البث التلفزيوني وصفحات الأشخاص العاملين أو المشرفين في وسائل التواصل الإجتماعي. وقبل هذا الموازنة بين العلاقات الخارجية والتفاعل مع الداخل اليمني.
السؤال الذي يطرح نفسه في كل مرة تغلق قناة تلفزيونية يمنية ذات اهتمام سياسي تبث من الخارج هو : ما هي محددات وحدود الاستقلالية في المشهد الاقليمي؟
ظلّ المشهد الإعلامي اليمني المنطلق من إسطنبول موقع اهتمام شخصي، وقد خصصت له صفحات في رسالتي للدكتوراه وفي مقالات أخرى منشورة وغير منشورة. حزينٌ بوصفي باحثاً مهتماً يرى بعض موضوع بحثه يتبخر، وحزينٌ لأصدقاء وصديقات جمعتنا بهم وقفات ولحظات طيبة.
د مصطفى ناجي