المجد للإنسان الذي يصنع نوره ..
المجد للإنسان ، ذلك الكائن الذي خلق من هشاشة الطين وقوة السؤال، من ضعف الجسد وصلابة الروح. ذلك الكائن الذي لا يهدأ، ولا يكتفي، ولا يرضى ان يكون ظلا يمر على جدار الزمن دون ان يترك فيه اثرا يشبه صوته الداخلي.
المجد للمتمردين الذين ادركوا ان الطاعة ليست فضيلة اذا قتلت فيهم نور العقل، وان السكون ليس سلاما بل موت بطيء. اولئك الذين يشقون ليل العالم باسئلتهم، ويسيرون في الدروب التي يخشاها الجميع، لانهم يعرفون ان الحقيقة لا تمنح لمن يختبئ، بل لمن يغامر بان تنكسر قناعته امام ضوء جديد.
هم من اكتشفوا ان الحياة لا تعطي لمن ينتظرها، بل لمن ينتزع معناها من فوضى العالم. الذين اشعلوا اول شرارة حين فهموا ان الظلام ليس قدرا، بل غيابا مؤقتا للنور. الذين وقفوا امام الحقيقة لا بوصفها نهاية المعرفة، بل بداية سؤال جديد. الذين ساروا على حواف الخوف واكتشفوا ان الخوف نفسه طريق، وان القلب الذي لا يرتجف ميت قبل ان يموت.
المجد لمن امتلك شجاعة ان ينتقد ما ورثه كي يبني ما يليق به. لمن وقف امام ذاته عاريا من الاعذار نقيا من التبريرات، فصار اقرب الى جوهره مما كان يتخيل.
لمن طهر قلبه من الاوهام، واعاد تشكيل روحه بما يليق بانسان يريد ان يفهم لا ان يبرر، وان يسكن الكون لا ان يساق فيه.
والمجد لمن نظر في مراياه وواجه كذبه الصغير قبل كذب العالم الكبير. لمن تراجع خطوة كي يرى الصورة كاملة، لا كي يهرب. لمن اتخذ من الشك منزلا مؤقتا ومن التامل وسادة دائمة. لمن خرج من واديه الضيق الى فسحة الكون، ليس ليتوه، بل ليجد نفسه في اتساع اكبر مما ظن.
المجد للغرباء الذين عرفوا ان الوطن ليس مساحة ترسم على الورق، بل معنى يتسع كلما اتسعت الروح. الذين يحملون نورهم في الداخل ويجرؤون على السير به وسط ظلمات لا تنتهي. الذين اختاروا الفن والادب والفلسفة طريقا، لانهم ادركوا ان هذه العوالم ليست ترفا بل نجاة، وان الانسان بلا جمال ينهزم اسرع مما يتوقع.
المجد لمن خلق لنفسه عالما يليق بنبل روحه بعيدا عن ضجيج المقارنات وصخب التفاهات. لمن عرف ان العظمة ليست ارتفاعا فوق الناس، بل نزولا الى اعماق الذات حيث تنام بذرة الحقيقة.
والمجد للفضول الذي دفع العقل الى الحفر في ليل الكون بحثا عن معنى. للمجانين في اعين الناس والعقلاء في اعين انفسهم، الذين ادركوا ان العقل لا يقاد بل يطلق. الذين لا يركعون لفكرة لم يختبرها عقولهم
والمجد لمن لا يقيس نفسه بميزان الناس، بل بميزان الرحلة التي يقطعها نحو ذاته. لمن عرف ان المقارنات تقتل البهاء، وان الانسان لا يضيء الا حين يقف وحده امام اتساعه الداخلي.
ولمن صنع نورا صغيرا في قلب عتمته، وظل يحميه حتى صار ضوءا قادرا على ان يرى.
والمجد لمن صنع هالة نور في قلب كهف معتم، لمن ادرك ان الضوء لا يأتي من الخارج بل من الشرارة التي يوقظها الاصرار. لمن حاول ان يخفف من معاناة البشر، لانه عرف ان الخلود ليس تمثالا من حجر، بل اثرا من رحمة.
والمجد لمن خفف ألما، او ازال حجرا من طريق اخر، او ترك كلمة تجعل الحياة اقل قسوة. فهؤلاء وحدهم يدركون ان الخلود ليس ان نتذكر اسماءهم، بل ان نلمس اثرهم ونحن لا نعرفهم.
المجد للانسان...
للانسان الذي يخطئ فيتعلم، ويسقط فينهض، ويخذل فيشتد. الذي يؤمن رغم كل جراحه ان الطريق يستحق العناء، وان الحياة مهما اتسع ظلامها تبدأ من لحظة يقول فيها لنفسه ؛ انا لن اتوقف.
المجد للانسان...
للروح التي لا تنطفئ مهما انكسرت، وللعقل الذي لا يكف عن السؤال مهما ارهقته الاجابات، وللقلب الذي يجرؤ على الحب في عالم يتقن القسوة.
والمجد للانسان...
لانه الكائن الوحيد الذي ينهض من رماده كلما ظن العالم انه انتهى.
المجد للانسان...
ذاك الذي يخطئ فيتعلم، ويكسر فيتجدد، وينهض كلما اشتهى العالم سقوطه.
ذاك الذي يحاول.
يحاول دائما.
ويظل يحاول.