درسان من التجربة السورية… لماذا نجح الشرع وفشل غيره

Author Icon عبد ربه السقاف الطهيفي

ديسمبر 9, 2025

في الذكرى السنوية لانتصار الثورة السورية، يمكن تسجيل ملاحظتين ودرسين مركزيين كان لهما الدور الحاسم في صعود قائد سوريا الجديد والمريب أحمد الشرع.

الملاحظة الأولى أن أحمد الشرع، حين حكم إدلب منذ عام 2017، تعمّد أن يصنع منها نموذجًا لدولة مقبولة بالمعايير الدنيا لدى الشعب السوري، ولدى الرأي العام الدولي، رغم أنه قادم من خلفية هي الأسوأ على وجه الكوكب، خلفية الانتماء إلى تنظيمات هي الأشد تطرفًا وإجرامًا في تاريخ العصر الحديث.
ولكن الشرع لم يُنكر ذلك، لم يُراوغ، ولم يُجمّل ماضيه، بل قالها بصراحة للعالم: نعم، كنت أنتمي إلى هذه الجماعات، وكنت مقتنعًا بها في سنٍّ أصغر، ثم تطورت أفكاري، واكتشفت ضلال هذا الطريق، وتركتهم، وأعلن اليوم أفكاري الجديدة بالوضوح نفسه الذي كنت أعلن به أفكاري القديمة.

هذا هو الدرس الأول الذي يجب أن يُفهم جيدًا،
خصوصًا من قِبل أولئك الذين يحاولون اليوم أن يصنعوا لأنفسهم رصيدًا سياسيًا عبر الادعاء بأنهم يشبهون أحمد الشرع لأنهم “خرجوا من نفس المشكاة البائسة”، وهم في الحقيقة لا يشبهونه في شيء عدا هذه الخصلة السيئة.
ولكنهم يختلفون مع الشرع في أنهم يظنون أن التلوّن ممكن، ويظنون أن خداع الدول الكبرى سهل، ويظنون أن الكذب على العالم أمر بسيط، وربما نشأ هذا الوهم والفهم السطحي عند بعضهم لأنهم يتحدثون بلغة مختلفة مع أناس بلغات مختلفة، أو ربما لأنهم اعتادوا على التدليس المكشوف الذي يفهمه أصغر طفل ولكنه يعمل في البيئة السياسية المحلية، أو ربما لأنهم حين يتحدثون مع سفراء هذه البلدان يرون السفير يتحدث معهم بلباقة ويظهر أنه يصدق أقوالهم، وربما أيضًا يبدو عليه أنه لا يملك معلومات عنهم، وهذا شيء طبيعي، فهذا شخص دبلوماسي وهذه طبيعة عمله، قد تكون هذه الأسباب أو بعضها أو غيرها جعلتهم يتوهمون أن العالم بهذه السذاجة،
ولا يعرفون أن أجهزة الدول الكبرى اليوم تحلّل سلوك الإنسان قبل أن يتكلم، وتفكك ذرات شخصيته كما تُفكك الذرة، وتعرف عنك ما قد يفاجئك أنت نفسك.

الشرع لم يخدع أحدًا، بل واجه العالم بالحقيقة القاسية عن ماضيه الأسود، فصُدموا منه، لكنهم صدّقوه لأنه كان واضحًا وصريحًا.
وهنا الفارق الجوهري والدرس الأول.

أما الملاحظة الثانية، فهي أن أحمد الشرع، منذ سنوات حكمه الأولى في إدلب، لم يكتفِ بإدارة منطقة بالقوة فقط، بل بدأ مبكرًا بفتح ملفات حساسة: السجون، المظالم، الانفتاح على الآخر، والسماح بالمظاهرات حتى تلك التي خرجت ضده ورفعت شعارات إسقاطه، وفي الوقت نفسه اتخذ مسارًا صارمًا في ملفات الفساد، وسعى بطريقته إلى تقديم نموذج يمكن للعالم أن يراه بعينيه لا عبر الدعاية.

وفي هذا السياق جاء دور التسويق لمشروعه الطموح عبر نوافذ مثل زيارة الصحفي الأمريكي الشهير Martin Smith، مراسل برنامج FRONTLINE في فيلمه الوثائقي المعروف The Jihadist عام 2021، حيث دخل إدلب، وقابل أحمد الشرع وجهًا لوجه، وفتح معه ملف الماضي والانتماء للتنظيمات، وطرح عليه السؤال الذي يطرحه العالم كله:
هل يمكن الوثوق بك اليوم؟
هذه الزيارة لم تكن دعاية، بل تحقيقًا استقصائيًا قاسيًا نقل صورة حقيقية عن التجربة، بما لها وما عليها.

هذه الحركة وغيرها الكثير فعلها الشرع ليقنع العالم أن بين يديه نموذجًا قابلًا للحياة، نموذجًا يمكن أن يكون جزءًا من هذا العالم، لا معزولًا عنه، وهذا ما نجح فيه لاحقًا حتى رأيناه اليوم في البيت الأبيض مع قادة العالم الحر.

وفي المقابل، وعلى الضفة الأخرى، نجد نماذج في اليمن حكمت لعشر سنوات أو أقل، لكنها صنعت أسوأ تجربة إنسانية، وأسوأ نموذج للفساد، وأسوأ إدارة للسجون، ثم نهبوا المال العام وهربوه إلى عواصم العالم، وأقصوا كل من هو خارج جماعاتهم، وصنعوا نماذج لا تؤهلهم لا لحكم اليمن، ولا لتمثيل الدولة، ولا لأن يكونوا جزءًا محترمًا من المنظومة الدولية.
وبحّت أصواتنا ونحن نحاول نصحهم بإصلاح هذه الملفات بهدف تقديم هذا النموذج للعالم،
فصرخوا علينا بأعلى أصواتهم: الإسلام في خطر!!!

وهنا يتجلى الفرق الحاد بين نموذج أحمد الشرع، بكل ما في ماضيه من سواد، وبين نماذجكم التي هي وصمة عار في تاريخ اليمن الحديث.

زر الذهاب إلى الأعلى