أفعال لا أقوال ..
لستُ من النوع الذي يقشعر ، أتعرفون ما هي القشعريرة؟! إنها ' القشببة " باللهجة المحلية ، الزهو والدهشة والانبهار العاطفي . هذا التأثر الشديد بأمر ما قد يتسبب بقشعريرة لحظية ، وغالبًا ما تكون نتاج لمشاهد مؤثرة .
في السياسة، عليك أن تستعد لأسوأ الاحتمالات، وعليك أيضًا أن تسعى لأفضل الخيارات. وإن لم تستطع، فليكن الممكن والمتاح، فهذا خيرٌ من خسارة كل شيء. لا أحد في عالم السياسة يراهن على المجهول ، فمثل هذا الرهان خاسر حتى وإن بدا طريقه ميسورًا.
إن كنت سياسيًا محترفًا، فلا تلقِ بورقة ربحك في بداية اللعبة ؛ تمهل واستكشف ما يمتلكه خصومك من نقاط قوة أو ضعف.
قد ينجح هجومك بكامل قوتك في إرباكهم ذهنيًا ، بل وسلب زمام المبادرة منهم ولو لبعض الوقت ، لكن احذر: فقد تنقلب قوة المبادرة ضدك إذا لم تملك أدواتٍ إضافيةً تحفظ مكاسبك .
فالنصر الذي تحقق بفعل مفاجأة القوة ، وليس بالسيطرة والاستمرارية، سرعان ما يتبدد . ومع استنزاف زخمك الأول، ستجد نفسك مجاريًا لخصومك ، ثم خاضعًا لردود أفعالهم، وعندها تكون الخسارة ساحقة.
السياسي الذي لا يحسب حساب خصمه، ولا يُقيم أدواته وحلفاءه، ولا يرصد المناخ العام الذي يعمل فيه، هو سياسي ناقص الخبرة والمعرفة. فإدراك الوسائل والأساليب الناجعة لتحقيق الغاية، أهم من القوة المهدرة في معركة خاطئة.
والسياسي الذي يمسك بزمام السلطة والقوة والمبادرة، ثم يعجز عن استثمارها، فيلجأ إلى التحشيد في الساحات، هو سياسي يفتقر إلى شجاعة القرار، ولا يحسن إدارة الحالة.
بل إنه يشبه ربّان سفينة سلَّم دفة القيادة لركابها عوضًا عن إيصالهم إلى بر الأمان.
نعم ، السياسي الذي يلجأ إلى دغدغة مشاعر العامة، ويستنفر العاطفة على حساب العقل والمنطق، فأراه أقل كفاءة من أن يحمل راية تحرير أو استقلال أو دولة أو غاية عادلة .
فالمبادئ والغايات الكبرى لا تتحقق بالقصائد والخطب المثيرة أو بالسرديات المهيجة للمشاعر ، بل بالإرادة الصلبة، والعزيمة الثابتة، والفرصة الملائمة، والقدرة على توظيف الموارد والبشر في خدمة الهدف.
وطننا اليوم في محنة عظيمة، وهو بحاجة إلى ساسة وأفكار وطليعة تخاطب العقول، وتستنهض كل الإمكانيات المتاحة من أجل معالجات سياسية جادة وشاملة، تخدم الوطن وأبناءه جميعًا.
فاستمرار التحشيد في الميادين والشوارع لن يُفضي إلى دولة ولا إلى حل ناجع، بل سيزيد الأزمة تعقيدًا، ويؤجل الحلول، ويُرهن المستقبل إن لم نقل يجعله شائكًا بالغام الأحقاد والبغضاء بفعل التصرفات الحمقاء .
وهذه المظاهرات المُمَوَّلة من المال العام لا تُؤجِّل الحسم فحسب، بل تُحمِّل الاقتصاد أعباء إضافية، وتُولِّد مشكلات اجتماعية لا حصر لها، وهي النتيجة الحتمية للتحشيد القائم على الحماسة الزائدة ، لا على الاستراتيجية الواضحة.
فليكن عملنا رصينًا، بتفكيرٍ عميق وتخطيطٍ متين، لأن الأوطان تُبنى بالإرادة لا بالانفعال، وبالحكمة لا بالضجيج ، بالافعال لا بالاقوال ..