الوحدة اليمنية بين الإرادة التاريخية ومقتضيات المراجعة.
في الثاني والعشرين من مايو 1990، تحقق ما كان يُعد حلمًا مؤجلًا لليمنيين عبر عقود: وحدة اندماجية بين الشطرين الشمالي والجنوبي في كيان واحد هو الجمهورية اليمنية. وللحظة، بدت هذه الوحدة تتويجًا لنضال طويل ورغبة جمعية لدى شعبٍ تربطه الجغرافيا، والتاريخ، والثقافة، والمصير المشترك.
لكنّ مسار الوحدة لم يلبث أن تعرض لاختلالات بنيوية عميقة، كشفت هشاشة القاعدة التي تأسست عليها، وأظهرت لاحقًا الحاجة المُلِحّة لإعادة تقييم مشروع الوحدة برمته، ليس رفضًا لمبدئها، بل لإنقاذ جوهرها من أن يتحول إلى قيد سياسي أو وهم رمزي لا علاقة له بالواقع.
أولًا: تشخيص الواقع والانحراف عن المشروع الأصلي للوحدة
1. الخلل في البناء السياسي والمؤسسي
تحققت الوحدة اليمنية على قاعدة اندماجية شاملة وسريعة بين نظامين متباينين في الرؤية والسياسة، دون مرحلة انتقالية كافية تضمن تكيّف الأجهزة والمؤسسات، أو صياغة شراكة فعلية في إدارة الدولة. هذا التسرّع أفضى إلى تهميش تدريجي للمؤسسات الجنوبية، وخلق شعورًا بالتبعية لدى قطاع واسع من السكان، خصوصًا في المحافظات الجنوبية والشرقية.
2. أزمة توزيع السلطة والثروة
لم تتوزع السلطة والثروة بعد الوحدة على أساس توافقي، بل جرت وفق منطق الغلبة والنفوذ. وبعد حرب صيف 1994، تكرّست السيطرة الشمالية على مفاصل الدولة، في ظل غياب آليات رقابية ومؤسسية تمنع التمركز السياسي والاقتصادي. أدى ذلك إلى ترسيخ شعور باللاعدالة، وفتح الباب واسعًا أمام عودة النزعة الانفصالية.
3. فشل إدارة التعدد الجغرافي والثقافي
لم تُراعَ الهويات المحلية والخصوصيات الثقافية للمناطق المختلفة داخل اليمن الموحّد. وتم تعميم نموذج سلطوي مركزي يعيد إنتاج المنظومة التقليدية بدلًا من ترسيخ قيم الدولة المدنية. وقد أسهم هذا في تآكل الثقة بالمركز، وأضعف الإحساس بالانتماء إلى كيان وطني مشترك.
ثانيًا: تحولات ما بعد 2015: تعقيد الصورة وتشظي الجغرافيا السياسية
1. واقع الانقسام الفعلي
أفرزت الحرب المستمرة منذ 2015 مشهدًا جديدًا يتسم بتعدد السلطات الفعلية: الحوثيون يسيطرون على الشمال، والمجلس الانتقالي الجنوبي يحكم مساحات واسعة في الجنوب، بينما الحكومة المعترف بها دوليًا تعاني من فقدان السيطرة الفعلية. هذا الواقع أضعف بشكل كبير فكرة "الوحدة القائمة"، وحوّلها إلى مجرد مرجعية سياسية لا تنعكس على الأرض.
2. صعود الهويات المحلية والإقليمية
باتت الهويات المناطقية (تعز، حضرموت، شبوة، مأرب) تطالب بسلطات إدارية موسعة، بل بإدارة ذاتية. وصار الحديث عن الانفصال أو الفيدرالية حديثًا مألوفًا ومشروعًا في الأوساط الشعبية والنخبوية على السواء. لم تعد الدولة المركزية قادرة على فرض نموذجها التقليدي، ما يستوجب تفكيرًا جذريًا في صيغة العلاقة بين المركز والأطراف.
ثالثًا: خطة لإعادة تقييم الوحدة اليمنية: مسارات بديلة
في ضوء ما سبق، فإن الحفاظ على فكرة الوحدة لا يكون بالمكابرة السياسية أو التلويح بمخاطر التقسيم فحسب، بل يستدعي مراجعة شجاعة للمسار، وتفكيك العقد السياسي الذي فشل في ترجمة الوحدة إلى واقع عادل وفعّال. وفي هذا الإطار، نقترح خطة تحرك من أربع مراحل رئيسية:
1. تشخيص جذري لأسباب فشل الوحدة
إعادة قراءة تجربة 1990–1994 وتحليل أسباب الحرب والانفجار.
تقييم أداء الدولة بعد 1994 من حيث التمثيل السياسي والإداري.
دراسة أثر الفساد والتمييز في إذكاء النزعات الانفصالية.
2. تحليل الواقع الجديد لما بعد الحرب
رصد مراكز القوى الجديدة ومواقع النفوذ العسكري والسياسي.
دراسة ديناميات الهويات الصاعدة والمطالب المناطقية.
تحديد الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا في رسم مستقبل اليمن.
3. استكشاف السيناريوهات البديلة للوحدة
الوحدة المركزية المعدّلة: إصلاح جذري في شكل الدولة مع إعادة بناء المؤسسات.
الدولة الاتحادية: اعتماد نموذج فيدرالي يضمن الحكم الذاتي للأقاليم.
خيار الانفصال المنظّم: إذا تعذرت كل الحلول، يجري بحث الانفصال عبر عملية سلمية تحت مظلة أممية تضمن الاستقرار.
4. إجراءات لبناء الثقة ومعالجة آثار الماضي
اعتماد آلية للعدالة الانتقالية وجبر الضرر.
إطلاق حوار وطني شامل غير إقصائي.
بناء إعلام وطني جديد يكرّس قيم التعدد والتسامح لا الاستقطاب والتخوين.
خاتمة: الوحدة ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لبناء الدولة
الوحدة التي لا تُنتج عدالة ولا تضمن شراكة، هي وحدة هشة، قابلة للانهيار تحت ضغوط الواقع. وما بين من يتمسكون بها كشعار مقدّس، ومن يرفضونها كنتيجة مظلِمة، هناك مجال ثالث: إعادة التفاوض على شروط الوحدة وفق رؤية وطنية عقلانية، تحفظ الكيان اليمني، وتحترم تنوعه، وتمنع الانزلاق إلى صراعات لا نهاية لها.
إن الطريق إلى وحدة حقيقية يمر عبر تفكيك المركزية، ومواجهة أخطاء الماضي، والاعتراف بالهويات المتعددة لا إنكارها. فالوطن ليس قالبًا جامدًا، بل عقدًا حيًا يتجدد بالثقة والعدالة والمشاركة.