لماذا ننتصر دائماً؟
ليست المرة الأولى التي أفكر فيها في أسباب ظاهرة نكران الهزيمة، والتهرب من الاعتراف بالخطأ الذي يبدو سلوكاً مرضياً مستشرياً في مجتمعاتنا العربية. لكن تكرار نفس السلوك من إيران بعد هزيمتها المذلّة أمام إسرائيل، وتكرار نفس آليات الإنكار ورفض الاعتراف بالخطأ الذي شاهدناه عند حماس وحزب الله والحوثية، وسابقاً عند صدام حسين والناصرية والأسدية… هذا الانتشار الواسع للسلوك لا بد له من تفسير.
بالتأكيد من الصعوبة تفسير ظاهرة معقدة بعامل واحد، لكن مفهوماً في الأنثروبولوجيا الثقافية قد يُنير بعض الزوايا المعتمة.
يقسم بعض الأنثروبولوجيين المجتمعات في سلوكها أمام المصاعب والتحديات إلى نوعين:
• مجتمعات الشعور بالذنب Guilt Culture
• ومجتمعات الشعور بالعار Shame Culture
الفرق أن مجتمعات الشعور بالذنب هي مجتمعات يتعامل الناس مع الخطأ والصواب من خلال ضميرهم. إذا ارتكب الشخص خطأ، يشعر بالذنب حتى لو لم يعرف أحد، ويسعى لتصحيح ما فعله، ولهذا يحتل الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه قيمة كبيرة لديها. الأهم في هذا المجتمع هو الصدق مع النفس والالتزام بالقيم الداخلية.
أما مجتمع الشعور بالعار، فيهتمّ الناس كثيراً بتنظيم سلوكهم وفق رأي الآخرين ونظرتهم إليهم. إذا أخطأ الشخص، يحاول أن يُخفي خطأه حتى لا يفقد احترام الناس أو يُسبب العار لأسرته. في هذا المجتمع، الحفاظ على السمعة والكرامة أمام الآخرين هو الأهم، حتى ولو كان بإنكار الخطأ والاستمرار فيه مهما كان مدمّراً.
لا يوجد مجتمع نقي ثقافياً، لكن أغلب المجتمعات الغربية من مجتمعات الشعور بالذنب. وهناك أيضاً مجتمعات شرقية حققت تحولات مهمة، مثل اليابان مثلاً. لهذا كان ممكناً أن تعترف اليابان بخطئها وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وتتطهر من أفكار الجهاد والشهادة وتُعيد بناء نفسها حول العلم والإبداع.
كانت فرنسا أيضاً قادرة على الإقرار بهزيمتها أمام ألمانيا، ذلك الاعتراف الذي انطلقت منه لتُعيد بناء المقاومة، وتشكل الحلفاء، وتحرر أراضيها. وتخيلوا لو أنكرت فرنسا هزيمتها آنذاك وأعلنت انتصارها وهتلر يتجول بدباباته تحت برج إيفل!
ألمانيا أيضاً اعترفت بخطئها وهزيمتها، وتطهّرت من الماضي النازي.
الدول الاستعمارية بشكل عام أدانت المرحلة الاستعمارية، واعترفت بجرائمها ضد الشعوب المستعمرة، وقطعت مع ماضيها.
الاعتراف بالخطأ والإقرار بالهزيمة كان خطوة لمعرفة كيف حدث ما حدث، وإعادة بناء المجتمعات على أسس صحيحة.
في حالة إيران – العرب، يحتل الشعور بالعار و”ماذا سيقول عنا الآخرون؟” مركز الصدارة، ولهذا تنجرف هذه المجتمعات نحو تمثيليات ومسرحيات مضحكة وادعاءات هزلية بالنصر، مع أنها تعرف يقيناً أنها هُزمت وأُذلّت.
والمعضلة ليست فقط في رفض الاعتراف بالخطأ، بل في أن سيطرة الشعور بالعار على السلوك تُغطي على الأسباب العميقة للهزيمة، وتسحب المجتمعات نحو هاوية من التدهور والانحطاط، وتضعها أمام خيارات انتحارية تفرضها ثقافة العار (ننتصر أو نموت)، وقد يكون الدمار الشامل والتضحية المجانية بالأرواح أهون عندهم من الاعتراف بالخطأ وتصحيحه (حماس-غزة نموذحا)!.
هناك أسباب أخرى سياسية وتاريخية، لكن تبقى رؤية العالم والموقف من القيم حاسمة. فحين يصبح الكذب على الذات علاجاً، والاعتراف بالخطأ عاراً، تفقد المجتمعات بوصلتها، وتظل أسيرة لهزائم تتكرر بأشكال مختلفة، لأنها ببساطة ترفض أن ترى الحقيقة.