قراءتي الشخصيه لبيان المكتب السياسي ...كيف يحاك المعنى؟

Author Icon مصطفى محمود

يونيو 26, 2025

لم يكن بيان المكتب السياسي للمقاومة الوطنية مجرد بيان احتجاجي عابر . كان هناك شيء مختلف في اللغة، في التوقيت، وفي ما قيل وما لم يُقَل. بدا وكأنّ البيان يُحاول أن يقول الكثير دون أن يُظهر أوراقه صراحة. وبين السطور، كان ثمة( سؤال يهمس بقوة: هل نحن على أعتاب" تحوّل سلطوي ناعم؟"

منذ سنوات، والمشهد اليمني يعيش فوق صفيح من التوازنات الهشة، حيث تتشابك الرؤى والمصالح، وتذوب الحدود بين الدعم الإقليمي والطموح المحلي. في هذا السياق، يطرح العميد طارق صالح نفسه اليوم — لا كلاعب ضمن معادلة سلطة مجلس القيادة الرئاسي — بل كفاعل يملك الكلمة والقدرة والميدان وهنا تبدأ الحكاية: حين يخرج فاعلٌ من قلب المؤسسة الرئاسيه ليعيد تعريفها من الخارج.

هدفي من هذا المقال

فهم ما يجري خلف البيان، لا في نصّه فقط، بل في إشاراته وسياقه وتوقيت ظهوره. إنها محاولة لقراءة المشهد عبر عدسة تحليل سياسي ملتزم بالحياد .. لكني لا اخلو من القلق: هل نحن إزاء دعوة إصلاحية؟... أم أن تحوّلاً هيكليًا في الشرعيه، يُصاغ على مهل، بقفازات ناعمة ولغة باردة؟.....

في المشهد اليمني الراهن، لم يعد(التحول السلطوي) يستلزم دبابات عند بوابة الرئاسة أو بيان رقم واحد في إذاعة العاصمة. ثمة أنماط جديدة تُعيد هندسة السلطة من الداخل، بأدوات ناعمة وخطاب يبدو إصلاحيًا للوهلة الأولى. هنا نحتاج إلى أدوات مفهومية لفهم ما يجري تحت السطح.

التحول السلطوي الناعم… سلطة تُسلب دون ضجيج
حين تُسحب الخيوط من تحت أقدام مجلس القيادة تدريجيًا، دون كسر ظاهر للقانون، ودون إطلاق نار، فنحن أمام (تحول سلطوي) ناعم. إنه ذلك المسار الذي تبدأ فيه جهة ما بنزع الشرعية خطوة خطوة: ببيانا يليه خطابًا، ثم مؤسساتيًا، ثم سياسيًا. لا ضجيج… لكن حين نفيق نجد المركز قد تغيّر، والقرار انتقل لغير أصحابه.

بين التصحيح والتفكيك… خيط رفيع من النية

كثيرًا ما تُلبس التحولات السلطويه الناعمة ثوب “تصحيح المسار”. وقد يبدو ذلك نبيلا. لكن الفارق يكمن في النيّة والوجهة: هل الهدف هو إنقاذ المؤسسة؟ أم إعادة تعريفها لصالح فاعل جديد؟ في الحالة اليمنية، تظهر المؤشرات أن ما يُعرض كتصويب قد يُخفي في جوهره تفكيكًا للشرعية وإعادة هيكلة شاملة في العمق.

 اللاعبون من خارج المؤسسة… سلطة الميدان والظل

هؤلاء الذين يجلسون ولا يجلسون على كرسي الرئاسة ويحملون صفه رسميه ولا يحملون صفة رسمية بنفس الوقت ، لكنهم يمسكون بمفاتيح التأثير الفعلي: قوة عسكرية، نفوذ إعلامي، دعم إقليمي، أو مكانة رمزية. وعادة ما يتقدّمون للواجهة عندما تهتز ثقة الناس في مركز القرار… أو حين يتهيأ الإقليم لتسوية من نوع آخر..

 تحولات«طــــــارق صـالـح» من ابن الدولة إلى رَهانٍ خارجها

في المشهد السياسي اليمني، لا يمكن فهم طارق صالح بوصفه مجرد وريث لعائلة حكمٍ بائدة ، ولا كضابطٍ نجا من مذبحة سياسية. بل إن صورته تطوّرت ببطء، من رجل ظلّ يراقب التحولات من بعيد، إلى فاعلٍ يُعيد صياغة موقعه وموقع الآخرين من خلال خطاب مزدوج: وطني في الشكل، استراتيجي في الغاية.

ما بعد الخروج من عباءة “العمّ صالح ”

حين قُتل الريس الاسبق «علي عبدالله صالح» أواخر 2017، خُيّل لكثيرين أن صفحة طارق قد طُويت معه. غير أن الرجل أعاد صياغة حضوره بطريقة ذكية: لم ينقلب على تراث العم صالح ، لكنه أخرج نفسه من سردية حزب المؤتمر ومن الثأر القبلي، ودخل سردية "حارس الجمهوريه" المستقله . وفي لحظة كانت النخب تفرّ أو تتوارى، قرر أن يصنع جغرافيته الخاصة في الساحل الغربي، بسلاح إماراتي لكن بواجهة يمنية.

 من القوة الميدانية إلى خطاب الشراكة المتأنية

لم يكن طارق يتحدث كثيرًا. بل كان يُفضّل أن يُراكِم أوراقه على الأرض. ومع الوقت، بدأ يظهر في بيانات محسوبة، تُعلن دعم الشرعية لكن لا تُخفي امتعاضه منها. بدا وكأنه يدخل ببطء إلى "نادي الشرعية"، لكن من بوابة جانبية يختارها بنفسه. أوحى للناس أنه راضٍ... لكن ليس خاضعًا. مشارك... لكن بشروطه. وهنا بدأ توازنه يربك المشهد.

 التصدّع الناعم: حين تتقاطع الطموحات مع ضيق المكان

مع تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، بدا أن اللحظة مواتية لطارق للعب دور الرجل الثاني أو حتى الطامح إلى تصدّر الصف. لكن مسار توزيع الصلاحيات، والتوازنات بين اعضاء المجلس والرئيس العليمي، جعلت طارق يبدو حاضرًا في الصورة، لكن بصوت ضمن اصوات بقية لاعضاء بدا له غير كافيا ولايتناسب مع حجم طموحاته.

من هنا بدأت نبرة الغضب تظهر—لا بصوتٍ عالٍ، بل برسائل متقطعة: لقاءات مغلقة، تغيّب عن مشاورات، تحالفات جديدة... والآن، بيان صريح فيه كل ما فاته أن يُقال في العلن.،
تحوّلات طارق صالح ليست انقلابًا بقدر ما هي عودة بطيئة إلى طاولة القرار، بشروطٍ لا يريد أن تُشبه الماضي، ولا يريد لها أن تُدار من خارجه.

●- في أول وهلة، يبدو البيان وكأنه يحمل نبرة رسمية معتادة: دعوة للتصحيح، إشارة إلى الشراكة، تذكير بالمسؤولية. لكن لمن يقرأ تحت السطور، ستتضح ملامح شيءٍ آخر… كأننا أمام نص كُتب بيدٍ غاضبة، لكنه ارتدى قفازًا حريريًا.

●ـ هدوء ظاهري… يتستر على تحذير متصاعد.
يبدأ البيان بجمل مألوفة، لا تثير القلق: "حرص المكتب السياسي على تماسك القيادة"، "دعوة للتوافق"... لكن سرعان ما تتسلل عبارات توحي بأن شيئًا ما يُغلي في العمق. كلمات مثل “الإقصاء”، “الانفراد”، “غياب التوافق” تُطلّ برأسها، تمامًا كما تطلّ الأزمة عندما توشك على الانفجار، لكن بأدب. ( وكأن البيان يقول: نحن لا نهدد... لكننا نُذكّركم أن لدينا القدرة على أن نفعل).

●ـ طارق... من غيور على الشراكة إلى "البديل الأخلاقي"

البيان لا يذكر الرئيس رشاد العليمي بالاسم، لكنه يُلمّح إليه بوضوح: “القرار الفردي”، “انحراف المجلس عن مهامه التوافقية”، “ضرورة إعادة هيكلة العلاقة”. هذه ليست مجرد ملاحظات، بل محاولة لرسم صورة ضمنية: أن الرئيس صار عبئًا، وأن الآخر (طارق) هو صاحب البصيرة الذي يرى الانحدار ويحاول إنقاذ سفينة الوطن..

 ـ بيان لا يُعلن العصيان… لكنه يشرعن التمرّد

ربما الأهم أن البيان يقدّم المكتب السياسي كمصدر تقييم ومرجعية للصواب والخطأ في مؤسسة الرئاسة. لم يعد شريكًا فقط… بل صار حَكَمًا. وهذا في منطق علم السياسة، خطوة رمزية تُمهّد لتصرف فعلي لاحق. فهو يُؤسّس لنوع جديد من الشرعية: شرعية من يملك الميدان، الصوت، والرضا الشعبي و الإقليمي الضمني.

5 ـ الغموض الوظيفي… فن الهروب من التبعات،

واحدة من أبرز ملامح البيان أنه لم يقل شيئًا بشكل مباشر، لكنه قال كل شيء. لم يصرّح بالنية، لكنه أوحى بها. لم يسمّ أحدًا، لكنه لم يُبقِ مجالًا للشك. وهذا النوع من الخطاب يُستخدم عندما يريد الفاعل إيصال رسالة دون أن يلتزم بثمنها بعد.

البيان في جوهره لا يريد فقط أن يُعبّر عن انزعاج… بل يريد أن يُعيد تعريف موقع كاتبه . هو ليس مجرّد بيان: إنه خرائط تحت الطاولة، كُتبت بلغة فوق الطاولة.

 السيناريوهات: المحتمله إلى أين يمكن أن تأخذنا الطريق؟

حين نضع البيان على طاولة التحليل، ونربطه بالسياق السياسي المضطرب، يمكننا أن نستشرف ثلاث طرق قد تسلكها الأمور، كل واحدة تحمل نكهة خاصة… لكن جميعها تتقاطع عند نقطة واحدة: إعادة تشكيل سلطة القرار، لا إعلان التمرد.

●. الأزمة الصامتة: التآكل من الداخل بدون إعلان،
في هذا السيناريو، يبقى مجلس القيادة على حاله… ولكن بلا روح. الاجتماعات تتعطل، البيانات تتكاثر، والخلافات تنمو من الداخل كالعفن في بيت مُغلق.

- يبدأ الأمر بتصريحات متزايدة النبرة.- ثم يُعطل التوافق، وتصبح القرارات رهينة النقاشات.
وفي الخلفية، ماكينة إعلامية تُعيد تشكيل وعي الجمهور.
{ هنا لا أحد ينقلب، لكن الجميع يشعر أن شيئًا ما لم يعد يعمل}

●. تحالف بديل من قلب الشرعية، هذا المسار لا يخرج عن اللعبة، بل يُعيد تصميم طاولة اللعب. يُخلق تحالف جديد — عسكريًا أو سياسيًا — يجمع بين طارق وقوى أخرى مثل المجلس الانتقالي أو المؤتمر.
●- تبرز مبادرات مثل “الإطار الوطني المنقذ”.
●- يظهر خطاب يتحدث باسم الجميع… إلا الرئاسة.
●- وتبدأ المناطق المحررة تُدار بمنطق "الشراكة الميدانية"، لا القرار المركزي.
وكأن الرسالة: الشرعية باقية… لكن القيادة تتغير دون أن نكسر الصورة.»
 اليد الخليجية تعيد ترتيب الأوراق

هنا لا يتحرّك الداخل إلا بعد أن تُغلق الأبواب في الرياض أو تُفتح في أبوظبي. ربما سبق هذا البيان ان ُطرح هناك سؤال غير معلن: هل لا يزال الرئيس مناسبًا لهذا الظرف؟ ويبدأ النقاش عن البدائل، لا بوصفها انقلابًا… بل “ضرورة تصحيح”.
- يُرشَّح اسم جديد.
- يُعاد توزيع الصلاحيات داخل المجلس.
- ويُقنع الجميع بأن الأمر تحسين… لا إطاحة.
> انقلاب ناعم؟ ربما. لكنه في هذا السيناريو يبدو كتحسين شكلي لمؤسسة أعياها التنافر.

-ما الذي يجمع بين هذه السيناريوهات؟

أنها جميعًا تفترض أمرًا واحدًا: أن الوقت لم يعُد في صالح الرئيس العليمي، وأن هناك فاعلًا يُعيد ترتيب أوراقه — بهدوء، باحتراف، وربما بتفاهمات لم تُعلَن بعد

الخاتمة: وما بعد البيان

ربما لا يهدف البيان لبدء عاصفة… لكنه بالتأكيد يُمهد لطقس جديد.
طارق لا يُعلن التمرد، لكنه لا يخفي أنه فقد الثقه... البيان لم يتهم، لكنه لمح… لم يدعو للتغيير، لكنه شجّعه بلغة السياسة.

التوصيات: إنقاذ الممكن
- لا بد من مكاشفة داخل مجلس القيادة: الشراكة الحقيقية صلبلها الاعتراف بالخلل. ومعالجته
- تعريف المكتب السياسي ، وتحديد علاقته بحزب المؤتمر الشعبي العام. ثم الاندماج في آليات القرار .
- الخليج مدعوّ لتثبيت الشراكة لا هندستها خلسة.
- الإعلام الوطني يجب أن يبادر، لا يرد الفعل فقط.
- وأخيرًا: الشرعية لا تُبنى فقط بالنصوص… بل بالثقة.
زر الذهاب إلى الأعلى