إيران بين قصقصة الأجنحة وتكتيك البقاء : نهاية مشروع أم بداية تموضع؟!
لطالما بنت إيران مشروعها التوسعي في منطقة الشرق الأوسط على ثلاث ركائز استراتيجية ، شكلت مجتمعة مكونات القوة الأساسية لنظامها السياسي والعسكري ، هذه المرتكزات هي: البرنامج النووي الإيراني ، والبرنامج الصاروخي الباليستي بعيد المدى ، والشبكة الواسعة من الميليشيات الحليفة في العراق وسوريا ولبنان واليمن ، وعلى ضوء التطورات الأخيرة ، خاصة مع اندلاع الحرب المفتوحة بينها وبين إسرائيل ، بدعم مباشر من الولايات المتحدة ، بدأ مشهد هذه المرتكزات يواجه تصدعات خطيرة مع استمرار ما يمكن تسميته باستراتيجية قصقصة الأجنحة ، التي تنفذها واشنطن وتل أبيب .
تعتمد طهران على ثلاث دعائم رئيسة لدعم نفوذها الإقليمي ، وتحقيق توازن الردع في صراعها المفتوح مع العالم العربي إسرائيل والولايات المتحدة ، الدعامة الأولى البرنامج النووي ، وهو الركيزة الأهم ، التي تراهن عليها إيران ؛ لفرض نفسها كقوة إقليمية كبرى ، حيث تلوح دوما بقدرتها على التحول إلى دولة ، تمتلك السلاح النووي رغم التزاماتها الشكلية ، الدعامة الثانية البرنامج الصاروخي البالستي ، وقد استثمرت فيه طهران بشكل مكثف ؛ ليكون أداة للردع والتهديد ، مع امتلاكها صواريخ قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي والخليجي ، الدعامة الثالثة الميليشيات الإقليمية ، وهي تمثل الذراع الطولى لإيران في الصراع غير المباشر ، وتشمل حزب الله في لبنان ، والحوثيين في اليمن ، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق ، بالإضافة إلى نفوذها داخل سوريا .
قبل الانتقال إلى المواجهة العسكرية المباشرة ، لجأت إسرائيل والولايات المتحدة إلى استراتيجية تدريجية ؛ لاحتواء النفوذ الإيراني عبر استهداف أدواتها الإقليمية ؛ فحزب الله اللبناني ، الذي واجه خلال السنوات الأخيرة ضغوطا اقتصادية هائلة وعزلة داخلية وتآكلا في صورته كـمقاومة ، بالتوازي مع ضربات أمنية إسرائيلية في الداخل السوري واللبناني ، والحوثيون الذين باتوا في مرمى الضربات الغربية والإسرائيلية ، بعد أن تحولوا إلى خطر مباشر على خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر، الأمر الذي يتعارض مع المصالح الأميركية والغربية ، أما الميليشيات الشيعية في العراق ، فقد تم احتواؤها سياسياً إلى حد ما ، عبر دفعها نحو الحياد أو تقليص تحركاتها المسلحة .
لطالما رفعت إيران شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية ، غير أن سلوكها السياسي والعسكري يظهر استخدام هذه القضية كقناع أيديولوجي ؛ لتبرير مشروعها التوسعي ، وليس كقضية مبدئية نابعة من عداء جوهري للغرب أو إسرائيل ، ففي العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة ، اكتفت إيران بإدانة لفظية لم تتجاوز حدود الإعلام ، ولم تفعّل أدواتها العسكرية بشكل ملموس ، كما أنها لم تدفع بحزب الله إلى إشغال الجبهة الشمالية ، لم يتغير الموقف إلا بعد شعور طهران بأن العمق الإيراني ذاته بات مستهدفا .
في 13 يونيو 2025م اندلعت مواجهة عسكرية مباشرة بين إسرائيل وإيران ، استهدفت فيها تل أبيب ، بدعم أميركي واسع ، البرنامج النووي الإيراني بشكل مكثف ، وبحسب تقديرات أولية ، فإن هذه الضربات قد أخرت حصول إيران على السلاح النووي لعدة سنوات ، لكنها لم تنه الطموح النووي تماما ، أما البرنامج الصاروخي الإيراني ، فقد تضرر جزئيا بفعل استهداف البنية التحتية ، لكنه لا يزال فاعلا ومؤثرا ، في المقابل لا تزال إيران تحتفظ ببعض النفوذ من خلال وكلائها ، فالحوثيون لم يهزموا كليا، وحزب الله لا يزال موجودا رغم الضربات ، والحشد الشعبي ما زال يحتفظ بمواقعه في العراق ، لا يبدو أن إيران ستفرط بسهولة في مرتكزات قوتها الثلاث ، لكنها قد تلجأ إلى تقديم تنازلات شكلية في البرنامج النووي ، والعودة إلى طاولة المفاوضات ، بهدف كسب الوقت ، مع الإبقاء على برنامج سري يعيدها لاحقا إلى مرحلة التخصيب العسكري ، كما فعلت كوريا الشمالية سابقا ، كما أن إيران ستلجأ للإيعاز لوكلائها لعقد صفقات سياسية تبقي على نفوذها ضمن ترتيبات مع الحكومات المحلية ، كما هو متوقع في الملف اليمني ، وستعمل طهران على الاحتفاظ بالقدرات الصاروخية كأداة ردع أخيرة ، مع تطوير تقنيات جديدة لتفادي الضربات المستقبلية.
تدرك إيران اليوم أن مشروعها الإقليمي يمر بلحظة مفصلية ، تتطلب إعادة تموضع وتكتيك مرن في مواجهة ضغوط إسرائيلية أميركية غير مسبوقة ، ورغم الضربات الموجعة التي تعرضت لها ، إلا أن النظام الإيراني لن يتخلى عن أدواته الاستراتيجية بسهولة ، بل سيحاول التكيف معها للحفاظ على قدر من النفوذ والمناورة في المشهد الإقليمي والدولي .