الضالع وأصحاب الأعراف ...
ليس لدينا مشكلة مع الأشخاص، مشكلتنا مع الأفكار، وإذا ما نظرنا لهما ومن زاوية وتوصيف آخرين، فلا توجد مشكلة بقدر ما هو اختلاف أفكارٍ ورأيٍ وطرقٍ وأساليبَ.
نعم، ليس لنا أي خصومة أو عداوة مع عيدروس الزبيدي، أو الخبجي، أو بن بريك، أو يحيى غالب أو الشنفرى أو فادي باعوم أو سواهُم من رفاق سنوات الجمر والجبروت.
لو أنَّ المسألة بالمصلحة الشخصية، فليس هنالك ما هو أفضل من الانتفاع بوجود أناس تعرفهم ويعرفونك، وبيدهم سلطة ومال ومنصب.
حين كان عيدروس محافظًا لعدن، أجريت معه حوارًا، وكنت وقتها مراسلًا للشرق الأوسط بعدن، لم أشربْ عنده قنينةَ ماء، فكيف بمنحة مالية أو وظيفة.
أعرفه ويعرفني، لذلك حين سأله أحد رفاقنا الأتقياء عني بعد أن صار رئيسًا للمجلس الانتقالي الجنوبي، فأجاب: "محمد علي ليس معنا، وإذا لم تصدقني اذهبْ وأقنعه وأنا لن أتردد في ترتيب وضعه".
حين زارني الصديق الذي هو الآن في رحاب الله الواسعة، - استشهد بعد مدة وجيزة من زيارته لمسكني في مدينة الضالع -؛ سألني وقتئذ، فأجبته بتواضع وصدق: "رئيسكم عيدروس لم يُخْطِ يا صاحبي الوفي، كان صادقًا معك، ولا يعني ذلك أنني لست مع الجنوبيين".
وأضفتُ: "لست معه - كفكرة وغاية، لا كصديق ورفيق ومن البلاد - فلا أقبل على نفسي التفريط بما أعتقدُه مبادئَ ثوريةً عادلةً لكل اليمنيين، مثلما هو لا يقبل التنازل عما يظنُّه مبادئَ وأفكارًا منصفةً للجنوبيين الذين وعدهم باستعادة دولتهم ".
بعض زملائي يستنكرون عليَّ اختلافي مع من يفترض أنهم من البلاد "الضالع"، عدد منهم طالما تساءلوا: كيف لي مناهضة الإنتقالي وقادته ورؤيته للتجزئة، بل ووصل الأمر بأحد الخبثاء الذي اعتبرني من أصحاب الأعراف، وهذا يعني أنني واقف وسط بين جنة ونار ، بين وحدة وتجزئة ، بين عدن وصنعاء .
والحقيقة أنهم أخطأوا الظن، فأصحاب الأعراف كُثر في "المثلث" الضالع وردفان ويافع،ثمة قناعات مغايرة لا تؤيد التجزئة أو التوحد بصيغتهما الماضية الفاشلة، وهذه الأصوات خافتة بسبب استبداد الصوت الواحد الذي لا يقبل أو يستسيغ غير ذاته وصداه.
قبل التوحد كانت هناك أصوات داعية لوحدة متدرجة تبدأ بالكونفدرالية أو الفيدرالية، رافضة الوحدة الاندماجية، هذه الأصوات كانت لقيادات في الدولة والحزب، ومع ذلك لم تُسمع أو تؤخذ مخاوفها أو آراؤها بأيِّ اهتمام يذكر، ذلك أن المزاج الجمعي تناغم مع أصحاب السلطة والسطوة، فكان المآل كارثيًّا ومأساويًّا ما زلنا نتجرع تبعاته إلى اللحظة.
الآن يتكرر سيناريو الأمس، وإن اختلفت الوجهة هذه المرة، يساق القوم وبعاطفة جياشة إلى المجهول. الناس بطبيعتها تأسرها الأصوات الصاخبة المرتفعة . من هذه الخطب الديماغوجية المتعصبة الثأرية برزت للوجود أسماء طغاة جلبوا لوطنهم وشعوبهم الخراب والقتل والكوارث، لا لشيء غير تخلُّقهم من بذرة العصبية والجنون.
وعودة لموضوعنا، أعرف أشخاصًا مثقفين كانوا من أشد الناس حماسة لاستعادة الدولة الجنوبية، ومناهضةً للتوحد، لكنهم الآن هم أقرب إلى أصحاب الأعراف، لا يؤيدون التجزئة أو التوحد بنموذجهما السالف، فكلاهما لن يُعالِجا أزمات الجنوب أو اليمن.
والأكثر من ذلك، توجد هنا أصوات منحازة لخيار المستقبل، دولة اتحادية عادلة ومنصفة للجميع، وإن كانت هذه الدولة لا وجود لها، أو بدت الصورة قاتمة وغير محفزة لتحقيقها، فخلال العشرة الأعوام المنصرمة زادت هذه القناعات رسوخًا في أذهان الكثير من المنتمين لهذه المساحة.
في كل مرة أجدني مجيبًا على زملاء من عدن وأبين وشبوة وتعز وإب وصنعاء: "الضالع يا هؤلاء ليست مثلما تظنون، إنها أكبر من عيدروس وشلال وصلاح الشنفرى".
كما يصعب اختزالها بقرية أو منطقة أو فئة أو فصيل أو فكرة واحدة مهما طغت واستعلت وتجبَّرت على ما دونها من الأفكار التي يرى أصحابها أنها عادلة ومنصفة.
وفي كل مرة يتكرر السؤال، وتتكرر الإجابة: "الضالع مثل بقية أخواتها المحافظات الجنوبية، هنالك أصوات وأفكار مغايرة لكنها لا تُسمع، أو قُل: ضاق بها المكان بسبب طغيان لغة السلاح والمال والوظيفة والسلطان".
وهكذا هو حال أبين وشبوة عقب ما اعتبروه انتصارًا للشرعية وللزمرة وهزيمةً للانفصاليين والطغمة في حرب صيف ١٩٩٤م. وهكذا حال لحج بعد مأساة يناير ١٩٨٦م.
رغبة الثأر من الآخر المختلف ليست بظاهرة جديدة، فكل من يستولي على السلطة أول شيء يفعله هو إقصاء خصومه والتنكيل بهم.
القوة في هذه البلاد لا تؤسس لأي قيمة مطلقة أو غاية وطنية عادلة، إنها مثلما وصفها العبقري ميكافيللي مجرد قوةٍ عمياء إذا لم تقترن بروح المواطنة المتمثلة في الوفاء والخضوع لسيادة الدولة.
إنها وبتعبير آخر تجسيدًا لمبدأ الهيمنة بقوة السلاح لا بقيمٍ وطنيةٍ حقّةٍ وعادلةٍ لكل الناس. كان ميكافيللي قد خلص من تجربته السياسية والعسكرية بالقول بنجاح كل الأنبياء المسلحين، وبإخفاق نظرائهم الأنبياء العُزَّل الذين لم يحصلوا إلا على الخيبة والخسران.
واليمن في تاريخها الحربي التليد اعتاد قادتها المنتصرون سحقَ الآخرين، وتهميشَهم وإقصاءَهم، وتمكينَ الموالين والأقرباء، دونما استفادةٍ أو اعتبارٍ أو مراجعةٍ لدروس هذا التاريخ.
فما من سلطان إلَّا ويزول، وبزواله تدفع الأمكنة وأهلها الثمن باهضًا، فلا أحد يمكنه قبول أن الرئيس صالح ليس حصرًا على سنحان، أو أن الرئيس الخلف هادي هو أبين، أو أن علي البيض هو حضرموت، أو أن عيدروس الزبيدي هو الضالع، فكل هذه الأمكنة قدرَها أنها غالبًا ما تدفع فاتورةَ أشخاصٍ أو فئةٍ حكمت وتجبَّرت.