زياد الرحباني… الثورة التي لم نحتملها
علاقتنا بزياد، نحن المتحمسين للرحبانية الكلاسيكية، لم تكن سهلة أبدًا.
فزياد لم دخل إلى جمهور الرحابنة من الباب الهادئ لعاصي ومنصور وفيروز،. كنا نحن، عشاق المدرسة الرحبانية الكلاسيكية، نرى فيه في البداية ذاك “الولد المطيع”، الذي يسير على خُطى والديه في أغنية مثل “سألوني الناس”، أو ذاك الشاب المتحمّس الذي يحاول أن يرقى إلى عظمة المسرح الرحباني في مسرحية “سهرية”.
لكن زياد لم يكتفِ بالتمرُّن على الإرث الرحباني، بل بدأ يصوغ مساره الخاص، وذهب أبعد من ذلك، إذ تطوّع لتفكيك “الميثولوجيا الرحبانية” نفسها، ميثولوجيا الضيعة والمختار والبساطة والسلام الذي يتم في النهاية بنصافحة وأغتية. كنازنعشق هذه الميثولوجيا وكان زياد يرى أنها باتت عائقًا أمام تطور الفن اللبناني والمسرح اللبناني والذائقة الفنية اللبنانية عمومًا.
الحقيقة أنه لم يكن لدينا أي مشكلة مع زياد المختلف، الذي يقدّم نفسه بشخصيات متجددة وأشكال متغيرة من خلال أغانيه التي تعكس شخصيته الفريدة — من “أنا مش كافر” إلى “عليا” و”عائشة” و”بلا ولا شي” و”الله تعبانة”، وصولًا إلى “يا زمان الطائفية”. لكننا كنا نشعر بنوع من الغضب الداخلي أمام تلك الأغاني والمسرحيات التي كانت، برأينا، تهدف إلى “هز” صورة الرحابنة في وجداننا.
في مسرحيته "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، لم نهتم كثيرًا بالتجريب المسرحي أو بالمحتوى السياسي، بقدر ما استفزّتنا السخرية المبطّنة من أغنية فيروز الشهيرة “بحبك يا لبنان”، ورومنسية لبنان الكرامة والشعب العظيم.
وعندما قررت فيروز أن تغامر في تجربتها مع زياد عبر ألبوماتها الثلاثة، اتهمتا زياد بالإصابة بعُقدة أيوب، لكنه انتقل من “عقدة قتل الأب” (عاصي) إلى “عقدة قتل الأم” (فيروز). كانت مشكلتنا نحن هنا أصولية أكثر منها فنية؛ فقد تمسّكنا بصورة فيروز الأسطورية، تلك التي جاءت من الغيم في “جسر القمر”، وعاشت فوق الدنيا والزمان والمكان، فيروز التي لا تتحدث كما يتحدث الناس، ولا تمشي كما يمشون، ولا تغني كما يغني الآخرون… بل تحلّق، وتغيب، وتظهر فجأة في عالم المفارقة.
لذلك، كان غضبنا كبيرًا عندما جعلها زياد تغني عن صبحي الجيز وتتورط في رموز الشيوعية اللبنانية. وكانت صدمتنا كبيرة عندما سمعنا “جارة القمر” تغني: “مش كاين هيك تكون”، و"ضاق خلقي". حتى الأغاني التي أحبها الجمهور لاحقًا، مثل “كيفك إنت” و”سلّم لي عليه”، لم ننجح في هضمها بسهولة، وكنا نجبر نفسنا على رفضها خلف موقف دفاعي نابع من رغبة داخلية في التمسّك فقط بذلك الفن الرحباني الذي عرفناه وعشقناه.
كنا نراه يحول فيروز من جارة القمر الى امرأة عادية تصرخ بغضب في اعضاء الفرقة الموسيقية بسبب خطأ في اللحن، وتضحك بعصبية وتوتر، وتغني اغاني منزوعة السحر.
كنا نراه مسكونا بعقدة "بجماليون معكوسة ". في مسرحية بجماليون لبرناردشو يتمكن الدكتور هيجنز، عالم الصوتيات، من تحويل فتاة شعبية سوقية الى سيدة مجتمع راقية عبر تدريبها على الحديث والتصرف كارستقراطية. أما زياد فكنا نراه يسحب "سفيرتنا" من النجوم الى الشارع شخصية وفنا وحديثا.
لكن الزمن كفيل بتخفيف حدّة التعصب، وبفهم فضائل التمرد.
مضى الزمن بسرعة. عشقنا للفن الرحباني الكلاسيكي لا يزال فينا، لكنه لم يعد سجنًا. صرنا أكثر نضجًا، وأكثر قدرة على تقبّل الثورة الرحبانية الجديدة. زياد لا يمكن إلا أن يكون ثائرًا، متمردا، مختلفًا. وصرنا قادرين على رؤيته بعيدًا عن والديه، بل صرنا نحذف كلمة “الرحباني” من اسمه ونقول ببساطة: زياد.
توقّفنا عن تلك العادة السيئة بأن نقيس كل شيء بمقياس ما قدمه الرحابنة الأوائل. نعم، زياد كان متمردًا، لكنه لم يكن دومًا حكيمًا. لم يتحلّ بالحذر الذي اتبعه عاصي ومنصور طيلة مشوارهما الفني. فقد كانا واضحين: يغنون للشعوب، للقضايا، لكن لا يمدحون الزعماء ولا للسياسة. وظلّ هذا المبدأ يحكم مسيرتهما حتى آخر لحن وآخر كلمة.
أما زياد، فلم يكن يهمه ما يُقال. لم يكن يخشى من التعبير عن مواقفه السياسية، حتى لو ناقصت فنه. وحتى لو تسبّبت في إحراج محبيه، وأحرجتنا فعلًا، لأننا لم نجد لها تبريرًا واضحًا، ولا حتى طريقة لفهمها.
رحل زياد.. لكن فنه موجود داخل محبيه وناقديه. ابداعه في المسرح والنقد السياسي واللحن والكلمات لا يمكن نسيانه أو تجاوزه. وكما كان إشكاليا، تظل علاقة الكثيرين به اشكالية. وهذا شرف لا يناله إلا المتمردون الكبار.