كفانا عبثا !
أيُّ بلدٍ هذا الذي يعيش فيه الجميع على فتات الماضي؟ بلدٌ تتصارع فيه القوى والأحزاب والتيارات لا لتبني وطنًا، بل لتبعث رفات سرديات بائدة، دفنها الزمن أو الشعب ذات يوم ثم عادت إلينا كالأشباح.
بلدٌ تصدح فيه كل الحناجر عن "الاستعادة": الحوثي يريد استعادة الإمامة، والجنوبي ينشد استعادة الدولة التي كانت، وأنصار الراحل صالح يحلمون بإعادة جمهوريته، وكأن المستقبل لعنة لا تليق بنا، أو كأن الزمن لا يمضي إلا للوراء.
نعم، الحوثي لا يرى في الوطن أكثر من إرث لجده، مشروعه واضح: حكم سلالي كهنوتي، مستبد، يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، إلى زمن العبودية والوصاية، إلى إمامة خرج الشعب ضدها ذات يوم، ثائرًا من الظلم والاستبداد... فهل نسي؟
وفي الجنوب، وأنا واحد منهم، لا تزال قضية استعادة الدولة السابقة وإن كانت عادلة كحق وقرار ينبغي على الجميع احترامه الا انها صارت طاغية على كل رؤية مستقبلية.
دولة ما قبل التسعين، التي هرب ابائنا منها ذات تاريخ ، بتنا ننتظرها اليوم بعد الاف من الشهداء والجرحى والالام وقد اصابنا الملل ان لم يكن اليأس .
نريد أن نعود إليها وبإصرار غريب كأنها النعيم المفقود، لا لشيء، غير أن الوحدة شوهت وفُرّغت من مضمونها بفعل سلطةٍ طاغية جائرة.
أما من تبقى من دعاة استعادة الجمهورية ، وأعني هنا بعامة الشعب ، فلا يزالون يرفعون صور الزعيم ، يتجادلون بروايات وفاته وأيهما الرواية الصحيحة أو الصادقة . فكل فريق يروي ويدلي ويوصف المشهد الأخير ، ليس حبًا ووفاءً له ، بل نكايةً بالواقع البائس الذي جثم على صدورهم من بعده .
وفي هرم السلطة هناك من يحلم بوهم عودة جمهورية الوالد الراحل علي عبد الله صالح، كأنهم لم يروا الشعب يومًا في ساحات الغضب يهتفون ضده وضد فساده، ويتم الآن إعادته إلى الواجهة بحثاً عن سلطة فقُدت وماضي كانوا فيه اسيادًا وأمراء وسلاطين .
والشعب ، ويا لبؤس الشعب ، منقسم، مجزأ، ممزق ، حزين ، منهك من أعباء الحياة اليومية . بين الحنين لزعيم يظن أنه طوق نجاة ، وبين الحنين لدولة يراها المدينة الفاضلة المفقودة .
وبين استعادة دولة وجمهورية هناك جيل يتربى ويكبر متجرعا بأفكار ظلامية عنصرية حوتها كتيبات وملازم الإمامة العائدة بعمامة الجاهلية الأولى ، ومتشبعة بأباطيل حقها المقدس بالحكم والدولة والمسيدة على الملايين من الرعاع الأقل درجة ومكانة في اللاهوت السلالي القذر والزائف .
وفي كل الأحوال ، لا هذا عاد أو تلك عادت ، أو اولئك سيعودون غصبا ، الكل يغرق في بحر من خيبة الأمل.
جميعنا في دائرة مفرغة، ندور ولا نتقدم، نصرخ ولا نُسمع، نهدم ولا نبنى. كل ما فينا ماضٍ يصول ويجول ، لا رؤية جديرة بالتفاؤل والحماسة والتضحية .
شغلونا ولحد أننا صرنا منهكون ، نُطارد أشباحًا، ونقتل على خرائب ، نمسي على خُطب بالية مهترأة ، ونصبح على وجوه قادة لا يخجلون ولا يتورعون عن الكلام عن الدولة المزعومة ، وعن الجمهورية المفقودة ، وعن عاصي والديه الذي عاث فسادا وتمردا ، ولا لقي من يردعه أو يهدده أو ينازعه ملك استولى عليه بالحديد والنار .
فإلى متى نظل ندور ونلف مثل جمل المعصرة ؟ والى متى نبقي مجرد ضحايا مثقلين بوزر تاريخ لم نعشه ويراد فرضه علينا دونما مشيئة أو رغبة منا ؟؟.
لا فائدة ، ولا نفع من الثرثرة أو الحنين الى دولة أو حكم أو زعيم . لا جدوى من لغة الأمس . نريد الحديث عن الغد ، عن وطن جديد يتسع لنا جميعا ، إلى عقلية نظيفة خالية من الأحقاد والثأرات ، إلى قطيعة تامة مع كل ما هو موروث ولا يليق بنا ، الى دولة مدنية حديثة لا كراية وشعار ، بل عقد اجتماعي عادل ، كيان من أجل الإنسان والوطن ، يمنح الأمل للأجيال.
أما آن لنا أن نُعيد لملمة الفكر؟
أن نجمع ما تبقى من شتات الجهود لبناء دولة حقيقية؟
دولة لا تعترف إلا بالعدل ، ولا تنتمي إلا للناس؟
دولة مدنية، لا تهم تسميتها ولا من يأتي بها، بل تهم عدالتها وإنصافها وصدق مشروعها؟
إنّ استمرارنا على هذا الطريق هو انتحارٌ بطيء، نُساق إليه باسم قضايا فقدت مضمونها ، ونموت فيها تحت رايات لا تشبع جائعا أو تكسي عاريا أو تنصف مظلوما .
كفانا عبثًا...
كفانا جريًا خلف وهم،
كفانا استنساخًا لماضٍ لا يصلح لحياتنا الحاضرة أو يشيد عليه مدماك المستقبل .
آن أوان الخروج من سرداب التاريخ إلى شمس الغد...
إلى وطنٍ يسكننا ونعيش فيه لا عليه، نبنيه لا نرثه ، نصنعه لا ننتظره.
وإن لم نبدأ الان ، فلن نبدأ أبدًا..
كامل محمد علي