العصبية والبُغض إلى زوال ..

Author Icon محمد علي محسن

أغسطس 8, 2025

حذّرنا ونبّهنا من خطورة حَشْد الجنوبيين على أساس العصبية للجغرافيا . قلنا لهم في ذروة الحراك: "لا يغرّنكم الحشود التي باعثُها العصبيةُ للمكان، الأفضل لكم ولنا مئة أو عشرة في الساحة، من مليونيات زاحفة محرّكها التعصب والبُغض للآخر".

غرورُهم وعنادُهم دفعهم لرفض الفكرة السياسية والتنظيم الملتزم بأطرٍ وقواعدَ وأهداف. رأَوا أن شحنَ الجماهير بكراهية الآخر، وفرز المجتمع على شاكلة "جنوبي مظلوم في مواجهة شمالي ظالم"؛ خيرُ وسيلة، وأنجعُ طريقة لجلب الجنوبيين إلى الساحات، وفي ساعاتٍ أو أيام.

حسنًا، لقد أفلحت العصبية في صناعة قادة وأتباع بسلطة مسيطرة، كما نجحت في التحشيد الجهوي إلى جبهات القتال ، وفي مهمة تحرير محافظات الجنوب، رغم أن هذا التحرير يصعب نِسْبَتُه إلى فئة أو انتماء بعينه.

فأغلب الفئات الجنوبية ساهمت فيه بدوافع مختلفة: وطنية وإنسانية وطائفية وفكرية ووجودية. فضلًا عن أن هذا التحرير ما كان سيتحقق لولا دعمٌ وإسنادٌ من دول التحالف.

وأيًّا يكن الأمر، فمثل هذا المنطق خطورتُه أنه لا يؤسس لدولةٍ ونظامٍ مستقر سياسيًا. فالدولة لا تُبنى بالبُغض أو بتشويه صورة الآخر، وإنما تُؤسس غالبًا –وأبدًا– على العدالة والمساواة والتسامح واحترام الحقوق والحريات.

مأساة الجنوبيين أن قادتهم الآن صنيعةُ هذه العصبية، ونتاجٌ لهذا البُغض الذي منحهم أتباعًا وساحةً وقوةً وسلطةً .
أغلب القادة –ولا أقول كلهم– ليسوا نتاج عمل سياسي أو كفاءة معرفية أو تعليمية؛ رافعتُهم الانتماء المكاني أو وراثة النضال والوظيفة؛ وذخيرتُهم خطابٌ شوفيني موقظ للعاطفة والحواس والحنين لماضٍ يُراد استعادته، ومُغَيِّبٌ كليًّا للعقل والمنطق والواقع بما فيه من مصالح وعلاقات حاضرة بقوة، تشكلت خلال ثلاثة عقود ونصف.

نعم، بالعصبية والبُغض قُدِّر لهؤلاء الاستيلاء على وظائف وسلطات الدولة والاستئثار بها، وتوزيعها على مواليهم ومن يرون فيهم التبعية العمياء.
واقعٌ مخيف لا يليق بإنسان حرٍّ غايتُه دولة عادلة لائقة به وبمجتمعه، وخطورة هذا الواقع في أنه استجابة غير واعية لمنطق مختلٍّ يُراد به فرض إرادة سياسية عصبوية غير عادلة، ومناقضة تمامًا لكل ما سواها من أفكار ورؤى أو أُسُس وقواعد متوافق عليها كمشتركات وطنية جمعية.

في لحظات من التاريخ تحدث مثل هذه الحالة، لسنا استثناءً أو حالةً شاذة . وقد سبق أن كتبت أو تحدثت عن نماذج صعدت من قاع الهامش إلى الواجهة أو البروز أو القيادة.

فأسهل طريقة لبلوغ السلطة أو الزعامة هي استثارة العصبية للمكان أو الدين أو المذهب أو العرق. بهذا الأسلوب وصل " أدولف هتلر " إلى سدة الرايخ الألماني، وتربّع ' موسوليني " على حكم إيطاليا.
وبسببها تمزّق العراق ولبنان وسوريا، ونتيجة لها استطاع شخصٌ مُختل كعبد الملك الحوثي حشدَ القوة والقتلَ لليمنيين ، تعصبًا لمذهبٍ وثأرًا لمقتل شقيقه.

السؤال الذي ينبغي أن يسأله كل شخص حرٍّ متجرّد من خَدَر العصبية وجهلها: لماذا أخفقت كل التجارب المتكئة على العصبية للعرق أو الدين أو اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا؟!
الإجابة: ما من فكرة عنصرية نجحت وسيطرت إلا وكان مآلها كارثيًّا مأساويًّا .
فكل دعوة باعثُها العصبيةُ للمكان أو العرق أو الدين يكون صعودُها بسرعة الصاروخ، ومع بروزها السريع سرعان ما تسقط وتزول نتيجة إغفالها حقيقةً مهمةً وضرورية: أن المجتمعات حصيلة مؤلَّفة من اعتقادات وعلاقات نفعية وخلفيات متعددة متشابكة، وهذه جميعًا يستحيل السيطرة عليها بغير دولةٍ راعيةٍ حاميةٍ لمواطنيها بلا استثناء.

التاريخ زاخر بمثل هذه النماذج، فعلى امتلاكها لكل وسائل القوة ، إلا أنها في المنتهى ستنتهي وتزول.
فكما للضرورة واللحظة منطقها وأدواتها وخطابها وقادتها، فإن للتاريخ والزمن والحياة والمجتمعات رافعاتُهم ومصالحُهم وغاياتُهم وأفكارُهم التي تتجاوز الأشخاصَ والأمكنةَ والعصبيات الضيقة والطارئة .

 

زر الذهاب إلى الأعلى