ملحوظات أولية عن بودكاست "ثمانية"
يخلط ضياء السعيدي بين مفهوم الدولة ومفهوم المدينة،
فالدولة تنظيم اجتماعي، وقد تكون مرحلة لاحقة من مراحل تطور المجتمع، بالانتقال من القبيلة إلى الدولة، بينما المدينة فضاءٌ تجاري وسلطوي.
أراد ضياء أن يقول إنه "ابن مدينة"، لكن معظم أبناء المدن القديمة، كصنعاء في العهد الإمامي، مثلًا، كانوا أبناء مدنٍ تدور في فلك السلطة الإمامية. كانت السلطة حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، ومع الوقت، اتسعت الهوّة بين سكان المدن وأهالي الريف المجاور.
يتناول النعمان (الابن) في كتابه "الأطراف المعنية" هذه النقطة بملاحظة دقيقة بالإشارة إلى العلاقة المتوترة أحيانًا بين "القبيلي" و"ابن المدينة".
لكن علينا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة في اليمن لم تقطع صلتها بالريف، بل شهدنا ترييف المدن، حيث تم استدعاء الأدوات الريفية (القبَلية) في حل النزاعات وممارسة السياسة.
في عدن - التي قطعت سابقًا شوطًا كبيرًا في التمدّن والاعتماد على الدولة - تراجعت مظاهر المدنية، وأصبحت الوسائل القبلية هي الأكثر شيوعًا في معالجة القضايا.
هل يتابع ضياء مثلاً مشاهد ذبح الثيران (إقامة المجلس القبلي) في عدن؟ وهل يرى كيف أصبح الوصل القبلي بديلاً عن القانون والدولة؟
يمكن للدولة أن تكون مشيخية بالكامل، وتحافظ على أعراف القبيلة، بل قد تُدار بذهنية مشيخية حتى لو كانت جمهورية، وتظل القبيلة فيها تحتل مركزًا حاسمًا، كما هو الحال في دولة الرئيس صالح.
في حقيقة الأمر ،و سيما في تجربة اليمن الشمالي ثم اليمن الموحد، فانه لم يسبق وان استحوذت القبلية على مكانة ودور محوريين في الحكم كما فعلت في العهد الجمهوري.
يخلط الباحث ضياء كذلك بين الدولة القومية، التي تتركّز سيادتها داخل حدودها السياسية، وبين الدولة القُطرية، التي تنتمي إلى فضاءٍ إمبراطوري أوسع.
فالدويلات اليمنية لم تكن دولًا قومية مكتملة، بل كانت جزءًا من فضاء إمبراطوري إسلامي، تمثل حكمًا محليًا ضمن شبكة أوسع من الشرعية والخلافة.
ومع سقوط بغداد، احتفظت الأقاليم بسلطة رمزية، حافظت على الشرعية الدينية بوصفها غطاءً للحكم، وإنْ كان شكليًا.
في تلك الحقبة، ولأسباب تقنية بحتة (ضعف وسائل الاتصال، محدودية الموارد المالية)، لم يكن ممكنًا قيام دولة مركزية مستقرة، لا في اليمن ولا في غيره.
وقبل تلك المرحلة، لم يكن بناء الدولة المركزية ممكنًا أيضًا. كانت التحالفات والنُظم اللا مركزية هي الشكل الأكثر شيوعًا.
ففي أوروبا، نشأت الإقطاعيات، وفي اليمن نشأ نظام الأذواء، وفي فارس ظهر نمط مشابه، حيث حصل جُباة الضرائب على مواقع مركزية في الحكم.
هذا الوضع يمكن تفسيره بوسائل الاتصال، أو من منظور ماركسي عبر أدوات الإنتاج والهيمنة الاقتصادية.
فيما يخص اليمن، كيف يمكن الادعاء بأن الدولة الرسولية - ناهيكم عن صحة وصف آل رسول بأنهم أمويون؟ هذا خطأ تاريخي واضح،هذا خطا قد يكون نابع من طبيعة الحديث الشفاهي - كانت ذات ارتباط خارجي؟
الدولة الأيوبية في مصر انتهت نحو عام 1250، بينما نشأت الدولة الرسولية في اليمن- (في تعز) واضع تعز بين مزدوجين للعودة إلى هذه النقطة في وقت لاحق - قبل ذلك بربع قرن، واستمرت حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت مسؤولة عن تأمين الأماكن المقدسة في البحر الأحمر، أي مكة والمدينة، مما يدل على عمق استقلالها ووظيفتها السيادية.
هناك نقطة يكررها كثير من الباحثين سيما اليمنيين المسحورين بالمقولات الجاهزة الأوروبية وهي مسألة "عدم الاستقرار التاريخي" في اليمن، وكأن اليمن استثناءٌ في العالم.
الحقيقة ان الحديث عن عدم استقرار ينطوي على اشارة اساسية إلى وجود تركيب اجتماعي معقد ،يصل إلى حالة الدولة ولو بالمعنى التاريخي قياساً بمناطق لم تعرف أي تنظيم معقد، حتى يجري عليه الحديث باستقرار من عدمه.
لكن: ما المنطقة في التاريخ التي عرفت استقرارًا تامًا، ولم تشهد اضطرابات أو صراعات على السلطة؟
أعتى الإمبراطوريات كانت تعيش حروبًا دائمة، سواء خارجية أو داخلية، وإن خمدت الحروب في الخارج، اشتعلت المؤامرات داخل القصور بين الإخوة والطامحين للسلطة.
وإذا كان التاريخ الإسلامي مستقرًا فعلًا، فلماذا صاغ ابن خلدون قانون "الدورة الخلدونية" من ملاحظات تاريخية؟ أليس ذلك اعترافًا ضمنيًا بأن الاضطراب والتدوير والصراع جزءٌ من دورة الحياة السياسية خصوصا في الحوض الحضاري الإسلامي بل ان ابن خلدون خرج إلى ما وراء هذا الحوض في ملحوظاته؟