فريدة راعية الضأن ..

Author Icon محمد علي محسن

أغسطس 22, 2025

أتذكر أول يوم ذهبتُ فيه إلى الحاج علي - رحمه الله - حيث كان يتعلم رفاقي القرآن الكريم بجوار مسكنه العتيق، وتحت ظلال شجرة الطلح.
كان إنسانًا طيبًا وَوَقُورًا، وكانت جدتي - قبل مغادرتي عتبات البيت برفقة صديقي خالد - قد قامت بطلاء رأسي ووجهي بدهنِ سمن بقرتها.
فكلما زاد وَهَجُ الشمس، أخذت رائحة السمن تنبعث بكثافة؛ وأخذ وجهي يلمع ويسيل، حتى ضقْتُ ذَرْعًا وَهَمَمْتُ بمغادرة حلقة الدرس.

كان الحاج علي ينظر إليَّ شَزْرًا، وتارة ينفحني بضحكة عذبة جذابة، بدت فيها أسنانه الذهبية مُضِيئَةً لعتمة خجلي.
كانت المدارس وقتئذ لا تدرِّس القرآن، وَيُحْسَبُ للحاج علي أننا حفظنا جزء عمَّ على يديه، قبل أن نلتحق بالمدرسة.
وفي حلقات حفظ سور القرآن، كانت تقف بجوارنا فتاة جميلة اسمُها "فريدة"، وهي بالفعل اسم على مسمى، فريدة متعددة المواهب، حادة الذكاء.

كانت تأتي كل صباح إلى مقربة من حلقة الأولاد، تتظاهر بأنها راعية لقطيعها ، والحقيقة أنها كانت شغوفة بالتعليم، تردد معنا بصوت خافت كل ما ينطقه الحاج علي.

كُنْتُ كلما نظرت إليها أشارت بيدها لرقبتها، رسالة صريحة لي بأنني إذا تفوهت بكلمة للحاج علي ستخنقني. خفتُ منها رغم أنها في سِنِّي.
كنا نحفظ كل يوم سورة، وخلال ثلاثين يومًا أتممنا الجزء الثلاثين، وذات يوم استوقفتني فريدة في الطريق، وأجبرتني كي أتلو عليها سورة الغاشية، قالت إنها لم تحضر ذاك اليوم، ففوجئت بها ترتل السور بصوت رقيق رخيم.

ذهلتُ من قدرتها على الحفظ والتلاوة، فقلت لها: "الحاج علي سيفرح كثيرًا"، وهنا جَحَظَتْ عيناها، وعَبَسَتْ ملامحها فقالت: "ويْلَكَ لو أخبرته".
في المدرسة جلست فريدة بجواري، وكان كل اثنين يتشاركان كتاب المطالعة أو الحساب، وكان المعلِّم حين يكتب الدرس على السبورة يحذّرنا من كتابته في دفاترنا قبل إكماله وشرحه.
كان ينبهنا بأن له أربع عيون، اثنتين في خلف رأسه، ينظر بهما إلى الخلف، وبهما يمكنه ضبط كل طالب يكتب أو يشاغب.

فريدة كانت أذكى ما في الفصل، وربما في المدرسة، بل وفي القرية والمنطقة عموما.
كانت لا تبالي بعينيه الخلفية ، تترقب حركات معلم اللغة العربية، فكلما التفت ناحية السبورة، أخذت القلم وكتبت كل كلمة يرسمها بخطه العريض المزين بالألوان.
كثيرًا ما التفتَتْ إليَّ غاضبة: "اكتُبْ يا أهبل، لا تصدقه أبدًا، لا أحد لديه غير هاتين العينين اللتين نُبْصِرُ بهما". بقيتُ خائفًا ومترددًا، وهنا جَحَظَتْ بعينيها وكشرت بوجهها، وغالبًا ما كنتُ أمتثل لأمرها بِوَجَلٍ وبدون رغبة.

في السنة الثالثة توقفت فريدة عن المدرسة، كان يمكنها أن تكون عالمة فضاء أو ذرة، ما من أحد منا إلا وأدرك ولو متأخرًا كم كانت ذكية ونابغة.
كُنتُ كلما صادفتها في الطريق تستعير كتاب الجغرافيا، كانت وَلُوعَةً للغاية بمعرفة العالم، بما خلف هذه الجبال الشامخة المسيجة للقرى المتناثرة.
ذات مرة عيَّرها زميل من قرية مجاورة لقريتنا، فانتفضت هازئة في وجهه: "كأنك من نابلس أو رام الله!".
بعد أن بلغنا المرحلة الإعدادية وصرنا نتابع نشرات الأخبار، أقبل هذا الزميل ضاحكًا وقال:
"لم أكن أعلم عمَّا تحدثت تلك المصيبة، الآن فقط عرفت أنها قصدت مدينتين فلسطينيتين، يا لها من خبيثة، لقد شَنَّعَت بي وبقريتي دون أن أَعْلَم أو أُعْطِيَ وزنًا لكلماتها في ذلك الوقت".

كنا نُصَفِّها بـ"الصومالية" عند أي خلاف طفولي معها، والحقيقة أنها كانت أجمل فتيات قريتنا، فَسُمْرَتُها حلوة ولذيذة آسرة للعين والفؤاد، وإذا كان هناك عيب بها، فهو أن لسانها طويل وحاد وقاذع.
جمال المرأة أيا كان نوعه يتلاشى ويزول مع زوال ماء الحياء من وجهها، الخَجَلُ مَزِيَّةٌ محببة في النساء، فريدة ليست من النوعية الصامتة، هي من الصنف الثائر، الهادر، المسترجل، الفاضح. عندما تُسْتَفَزُّ، يخيل لك أنها دبُّورٌ نافش ريشه ولا يتردد في لسعك وإيذائك.

أعترف لكم أننا جميعًا حلمنا بها، أحببناها، عشقناها، فكل شيء فيها مثير فتنة ودلال، وبالقدر نفسه الذي فُتِنَّا به بها خَشِينَاها، وتَوَجَّسْنَا من مُفَاتَحَتِهَا. كانت ناضجة منذ صغرها، متغطرسة، مستخفة بنا، تنظر إلينا كفتيان أقل شأنًا وفهمًا وحلمًا.

شخصيًا، طالما راودتني فكرة الاقتران بها، لكنني عند اقترابي منها بقصد إعلامها بشغفي وحبي لها، أحسستُ أنها أشبه بظبية جامحة في البراري، الهوة شاسعة، تزيد دقات قلبي اضطرابًا فأعود خائبًا.
ولا أعتقد أنني وحدي، فكل أترابي شاركوني الخوف ذاته.
كلنا أحببنا فريدة، وكلنا خفنا على أنفسنا من ذكائها وتمردها، كانت حلم كل واحد منا، وكان حلمها بلوغ النجوم والكواكب.

نعم، تربعت قلب كل عاشق، وكنا بنظرها لا نستحقها، الرجال لا يحبون الأنثى الذكية، المرأة التي تضع رأسها برأس رجلها لا تصلح للمساكنة أو الحب والغرام.
فريدة فتاة سبقت عصرها، كان حلمها أعظم من حلم فتيان القرية، وفي بيئة كهذه كان لا بد أن تترك الفصل والمدرسة قسرًا.
وأتذكر الآن يوم زواجها، كان حدثًا حزينًا ومؤلمًا لنا عشاقها، حينها لم نكمل الثالث الإعدادي، القرية بأسرها غشِيَهَا الأسى، السماء بكت وفاضت دموعها تضامنًا معنا.

وقفنا يومها ملتصقين بجدار عتيق، بقينا وسط المطر والبرد ننتظر رؤية حبيبتنا فريدة، ثلة فتيان طائشين وخائبين جئنا لوداع الفتاة لحظة زفافها وهي بكامل قيافتها وزينتها، لنرى وجه الشخص اللعين الذي أطفأ نور الحب في قلوبنا.

التقيت بفريدة قبل أيام، عمرها نيف وستون، هيئتها تبدلت، وبقيت ابتسامتها ساطعة، ولسانها شفرة قاطعة. وجدتها ترعى غنمها، اللحظة أيقظت حبًّا نام دهرًا، أوقدت ظلمة منسية في قاع ذاكرتي.
أول ما عرفتني قالت: "لو أن جدتك - رحمها الله - صبَّت السمن في خبزك بدلا من رأسك ووجهك، ما شاخت ذاكرتك أو نسيت فريدة راعية الضأن كل هذه الأزمنة".

ضحكت وقلت: "يا لك من امرأة فريدة! ما زلت بارعة في مراقصة الصخور ومغازلة الشياه!".

حَدَّجَتني بنظرها وقالت: "تبًا لكم من رجال، ليس لديكم إلا الكلام وقصائد الغزل . أُفَضِّلُ رعي أغنامي على رجال جبناء، أغبياء، لا يفقهون شيئًا في الحب أو المرأة أو السياسة أو الحياة..".

حاولت أن أفسر لها ما حدث فقلت: "جميعنا أحببناك، وَرَمْنَا وَصَالَكِ، لكنك امرأة عنيدة ومكابرة وأسوأ خصلة فيك لسانك السليط!".

كأنها لم تسمع شيئًا، شاحت بوجهها، أخذت ترقص بخفة ورشاقة وكأنها فتاة في العشرين، وقبل أن تذهب خلف قطيعها، ويختفي وجهها، أطلقت العنان لصوتها، زفرت ما في أعماقها وشدت بأغنيتها المفضلة:
يُمّه ظلمني أبي، لمو أبي باعني، يُمّه لدنيا العذاب،
وسيَّب أزهار عمري، تظمأ وتشرب سراب، واني صبية على، درب المحبة شباب، وأزهار نيسان بس، يُمّه تُهدى لشاب..

 

زر الذهاب إلى الأعلى