الفارس الذي صار نوراً
يا مُنْحَنِيَ الأغصانِ حُزْنًا.. يا صامتًا تَئِنُّ فيه المزامرُ..
يا صديقي ورفيقي وقدوتي.. محمد ناجي سعيد.. يا حبيبَ المتعبين، ويا ضميرَ الحالمين.. أيَّةُ فاجعةٍ عاتيةٍ جَمَعَتْ بَيْنَ ظُلْمَةِ الفقدِ ونورِ الجبينِ؟!
الصمتُ الثقيلُ يُغَطِّي الأمكنةَ: المَدَنَ، والقُرَى، والوِدْيَانَ، والجِبَالَ، والسُّهُوبَ، والشَّجَرَ. وها هي السماءُ باكيةٌ بِفَقْدِ كَوْكَبٍ طَالَما كانَ خَلِيلَهَا. والقلوبُ وَاجِفَةٌ حُزْنًا لِرَحِيلِ أَجْمَلِ الناسِ خُلُقًا وسِيرَةً وإيثارًا..
لقد غابَ الفارسُ الذي كان يرفعُها على كفِّهِ سِتْرًا وَوِقَاءَ، وغاب الفارسُ الذي كان السيفَ والدِّرْعَ. لقد رحل عنّا جسدًا، لكنّه بَقِيَ في قلوبنا نَبْضًا خافِقًا لا يتوقّف، وقصّةً تُرْوَى من جيلٍ إلى جيلٍ، إلى ما شاء الله.
أبا أنورْ ... كُنْتَ.. وَلَمْ تَكُنْ رَجُلًا عَادِيًّا.. كُنْتَ شَجَرَةً بَاسِقَةً تُظَلِّلُ وَطَنًا.. وَسَيْفًا لَمْ يُغْمَدْ لَحْظَةً، حَادًّا يَقْطَعُ دَنَسَ الظُّلْمِ.
كُنْتَ ضَمِيرَ البُسَطاءِ والحَالِمِينَ في الزَّمَنِ العَابِثِ، وكُنْتَ ضَمِيرَ النَّاسِ بِمُخْتَلِفِ شَرَائِحِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، لِهَذَا أَحَبُّوكَ وَتُوِّجْتَ مَلِكًا في ضَمَائِرِهِمْ.
كُنْتَ الصَّوْتَ الصَّادحَ بالصِّدْقِ في زَمَنٍ تَرَبَّعَ فيه النِّفَاقُ، وكُنْتَ صَوْتَ الحَقِّ النَّاشِدَ للحَقِيقَةِ في زَمَنِ الرِّيحِ والصَّمْتِ، وكُنْتَ جِسْرًا لِعُبُورِ الجِياعِ نَحْوَ الفَجْرِ.
وكُنْتَ كَلِمَةً مُسْتَفِزَّةً لا تُطَاقُ لِكُلِّ مُسْتَبِدٍّ وَظَالِمٍ، وَتَغْرِيدَةً شَجِيَّةً في شِتَاءٍ قَارِسٍ وَخَارِجَ سِيَاقِ الوَقْتِ والفُصُولِ.
في عَيْنَيْكَ، كانَ الوَطَنُ يَتَنَفَّسُ.. يَنْبِضُ وَيَتَرَنَّمُ بِالأَمَلِ. كَلِمَاتُكَ نُجُومٌ تَهْدِي، تُعَانِقُ القُلُوبَ الحَائِرَةَ. قُلْتَ: "لَا" وَاقِفًا بِشَمُوخٍ كَالْجِبَالِ، وحِينَ انْكَسَرَ الجَمِيعُ وَسَمَحُوا للظَّلَامِ أَنْ يَسْرِقَ الضِّيَاءَ، بَقِيَ صَوْتُكَ وَحِيدًا يُواجِهُ الظَّلامَ كَهَدِيرِ البَحْرِ في تَحَدِّيهِ لِلعَاصِفَةِ.
قُلْتَ: "لَا".. حِينَ انْكَسَرَ الجَمِيعُ قَائِلِينَ: "نَعَمْ". وَقَفْتَ كَالْجَبَلِ الأَشَمِّ، تَرُدُّ رِيَاحَ الطُّغْيَانِ بِصَرْخَةٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنَارٍ:
"لَا.. لَنْ أَبِيعَ ضَمِيرِي لُقْمَةً.. وَلَنْ أُهَبَ العَارَ لِقَبْضَةِ سُلْطَانٍ". كُنْتَ الوميض في عَتَمَةِ الدُّجَى، وَأَيْقُونَةَ الصُّمُودِ في زَمَنٍ خَنَعَتْ فيه هَامَاتُ الرِّجَالِ، وَتَكَشَّفَتْ فيه الأَقْنِعَةُ وَالوُجُوهُ.
عَرَفُوكَ عَدُوًّا.. لِأَنَّكَ كُنْتَ النُّورَ الَّذِي يُزْعِجُ عُيُونَ الظَّالِمِينَ في عَتَمَاتِهِمْ. تَبًّا لَهُمْ، حَاوَلُوا كَسْرَ عِظَامِ الجَسَدِ، إطْفَاءَ وَهْجِ النُّورِ، إسْكَاتَ صَوْتِ الحَقِّ، دَفْنَكَ في ظُلُمَاتِ الخَوْفِ.
نَسُوا أَنَّ الرُّوحَ لَا تَنْكَسِرُ أَوْ تَمُوتُ، وَأَنَّ النُّجُومَ، حَتَّى وَهِيَ مُنْطَفِئَةٌ، تَبْقَى سَاطِعَةً في رِحْلَةِ الضَّوْءِ إلَيْنَا. فَإِنْ طُفِئَ وَهْجُهَا تَظَلُّ تَلْمَعُ في سَمَاءِ الأَحْرَارِ، وَتُهَمْسُ للأَرْضِ بِمَوْعِدِ الحُرِّيَةِ، بِجَلاءِ العَتَمَةِ وَانبِلاجِ ضَوْءِ الفَجْرِ.
الآنَ مِتَّ، وَلَمْ تَمُتْ.. بَلْ صِرْتَ تُرَابًا مُقَدَّسًا.. تُرَابًا يَلْفِظُ الظُّلْمَ وَيُنْبِتُ الحُرِّيَةَ.. صِرْتَ قَصِيدَةً لَا تُمْحَى في وَجْدَانِ الأَجْيَالِ، وَذِكْرَاكَ أُنشُودَةً خَالِدَةً لَا يُطْوَى عُمْرُهَا، حُلْمًا يَنْبِضُ في عُرُوقِ الأَرْضِ، يَنْبُتُ أَزْهَارًا وَأَشْجَارًا، صَرْخَةً لَا تُسْكَتُ.. وَقَضِيَّةً لَا تُدْفَنُ.
سَأَحْمِلُكَ في جَفْنِي، لَيْسَ كَدَمْعَةٍ، بَلْ كَشُعْلَةٍ. أَعِدُكَ أَنَّنَا نَسِيرُ على الدَّرْبِ الَّذِي رَسَمْتَ، بِقُلُوبٍ تَنْبِضُ بِخَطَاكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْدَامَكَ مَا زَالَتْ تَنْبِضُ في الأَرْضِ دَلِيلًا.
وَذَاكَ المَتْكَأُ الَّذِي اعْتَدْتَهُ مُتَأَلِّقًا فيهِ، ثَمَّةَ أَثَرٌ طَيِّبٌ لَكَ، وَوَجْهُكَ حَاضِرٌ في المَكَانِ، حَيْثُمَا شَغَفْتَ الحَدِيثَ مَعَكَ، تَارِكًا فيهِ ذِكْرَى سَتَبْقَى في ثَنَايَاهُ كَوَسْمٍ، وَفي نَفْسِي كَغُصَّةٍ وَحُرْقَةٍ وَأَلَمٍ.
سَتَبْقَى.. كَالْقَهْوَةِ المُرَّةِ في حُلْقِ كُلِّ فِرْعَوْنٍ.. سَتَبْقَى كَالطَّائِرِ الَّذِي يَحْلِقُ فَوْقَ القِمَمِ، يَرَى كُلَّ شَيْءٍ.. وَيُغَنِّي للشَّمْسِ.
الآنَ.. وَأَنْتَ تَرْتَقِي سُلَّمَ المَجْدِ إلى الأَعْلَى، اِعْلَمْ أَنَّ كِفَاحَكَ أَصْبَحَ شَهَادَةَ اعْتِزَازٍ.. وَأَفْكَارُكَ إلْهَامًا تُنِيرُ دُرُوبَ التَّائِهِينَ الحَالِمِينَ بِغَدٍ أَجْمَلَ.. وَشَجَاعَتُكَ صَارَتْ حُرُوفًا في كِتَابِ الوَطَنِ الَّذِي سَيَكُونُ حُرًّا أَبِيًّا وَشَامِخًا.
سَتَظَلُّ الدُّمُوعُ الَّتِي ذَرَفَهَا الغُرَبَاءُ قَبْلَ المُحِبِّينَ، شَاهِدًا صَامِتًا على عَظَمَةِ الفِقْدَانِ، وَبُرْهَانًا على وَفَائِهِمْ لَكَ، فَلَمْ تَكُنْ إِنْسَانًا عَادِيًّا؛ إِنَّكَ إِنْسَانٌ تُخْلَقُ مِنْ صَلَابَةِ الصُّخُورِ وَأَنَفَةِ الجِبَالِ وَلُيُونَةِ رِمَالِ المُحِيطِ.
كانَ دَرْبُكَ طَوِيلًا شَاقًّا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَسْلُكَهُ بِقَدَمَيْنِ عَصِيَّتَيْنِ عَلَى الأَشْوَاكِ، وَبِقَلْبٍ مُؤْمِنٍ صَابِرٍ مُحْتَسِبٍ أَنَّ الحَقَّ سَيَغْلِبُ الشَّرَّ في النِّهَايَةِ.
كُنْتَ الوَادِيَ الأَخْضَرَ في أَوْجِ نُضْجِهِ وَثَمَرِهِ وَعَطَائِهِ، وَكُنْتَ المَدِينَةَ وَالرِّيفَ مَعًا في بَسَاطَتِكَ وَتَوَاضُعِكَ، وَكُنْتَ المُحِيطَ إِذَا مَا ثَأَرَ وَانْتَفَضَ بِوَجْهِ العَاصِفَةِ، وَكُنْتَ النَّسَمَةَ المُنْعِشَةَ لِأَرْوَاحِنَا في اللَّحَظَاتِ اليَائِسَةِ المُحْبِطَةِ.
أبا شفيع.. إلى هُنَاكَ.. حَيْثُ لَا خِيَانَةَ.. وَلَا وَجَعٌ.. وَلَا خُضُوعٌ.. إلى حَيْثُ تَسْتَقْبِلُكَ المَلَائِكَةُ بِأَكُفِّ الخُلُودِ..
أبا نائف .. إلى حَيْثُ يَكُونُ الكَلَامُ كُلُّهُ نُورًا، وَالحُبُّ كُلُّهُ طُهْرًا.. حَيْثُمَا تَمْضِي الأَرْوَاحُ بِدُونِ أَلَمٍ، بِدُونِ عَذَابٍ، في حَضْنِ السَّمَاءِ الوَاسِعَةِ وَالرَّحِيمَةِ.
أبا شائع .. سَلَامٌ عَلَيْكَ يَوْمَ وُلِدْتَ.. وَيَوْمَ عِشْتَ إِنْسَانًا حُرًّا أَبِيًّا مُحَارِبًا مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ كُلِّ مَظْلُومٍ.. وَيَوْمَ صَمَتَ خَفْقُ فُؤَادِكَ مُعْلِنًا ارْتِقَاءَكَ إلى مَلَكُوتِ السَّمَاءِ..
وَسَلَامٌ يَوْمَ تُبْعَثُ حَيًّا.. شَاهِدًا على أَنَّ النُّبْلَ لَا يَمُوتُ.. وَأَنَّ الظُّلْمَ إلى زَوَالٍ، وَإِنْ تَزَمَّلَ الزُّهُورُ، سَيَذْوِي بِشَمْسِ الحُرِّيَةِ الأَبَدِيَّةِ..