اغتيال المشهري .. جرس إنذار للجباية المسلحة والإقتصاد الموازي

Author Icon حلمي الحمادي

سبتمبر 22, 2025

لم تكن جريمة اغتيال الأستاذة إفتهان المشهري مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز، حدثًا عابراً أو فعلًا جنائيًا منعزلًا، بل جاء يُقدم رسالة دامغة عن واقع اقتصادي مريض ينهش جسد الدولة اليمنية منذ سنوات يتمثل "اقتصاد الريع الموازي والجباية المسلحة، الذي يديره النافذون ويتغذى على الإيرادات العامة التي تُحصَّل بطرق غير مؤسسية وتُوزَّع خارج القانون.

دفعت المشهري حياتها ثمناً  لموقفها، الرافض لتمرير مخصصات مالية ،كانت تُقتطع لصالح جماعات مسلحة ومراكز النفوذ المحلية، وأصرّت على أن تبقى موارد الصندوق في إطارها المؤسسي، وقد وضعتها هذه الجرأة في مواجهة مباشرة مع شبكات الفساد، التي أعتادت أن ترى المال العام غنيمة أو حقًا شخصياً، فأنتهى الأمر بتصفيتها بطريقة غادرة وبشعة.

ريع موازٍ أقوى من الدولة

الإشكالية العصية و القابلة للإنفجار الأن في اليمن وهي  لا تقتصر على الصراعات السياسية والعسكرية، بل تمتد إلى إدارة الإيرادات المحلية، وبدلاً من أن تكون هذه الإيرادات أداة لبناء المؤسسات وتوفير الخدمات الأساسية، تحولت إلى غنائم يتقاسمها النافذون، هُنا "ضرائب"، وهناك "جمارك"، وفي مكان أخر "رسوم الخدمات"، وحتى "صناديق النظافة".

جميعها باتت تُدار عبر قنوات غير شفافة، وهناك ما يُقدر بحسب التقديرات ب 600 مليون دولار سنوياً تتسرب من هذه الإيرادات إلي جيوب شبكات مسلحة ومتنفذون محليون، وهكذا نشأ اقتصاد موازٍ ينخر جسد الدولة و يتفوق على مؤسسات الدولة ذاتها، ويُعيد إنتاج مراكز القوى والمليشيات بإستمرار، ولكن هذه المرة بلباس الدولة وأدواتها، ولم يعد الفساد فسادًا إدارياً تقليدياً ، بل بنية كاملة وعملاً ممنهجاً لإفقار الدولة وإضعافها، فهو يُفرغ مؤسساتها من مضمونها ويجعلها مجرد لافتة بلا سلطة.

الجباية المسلحة .. الوجه العاري للأزمة

من أبرز تجليات الاقتصاد الموازي الجباية المسلحة، حيث تُفرض وتحصل الرسوم في الأسواق والشوارع و عند نقاط التفتيش، أو أن تفرض بالإقتطاع من موارد مؤسسات الدولة السيادية بعيدًا عن أي إطار قانوني، وتتوزعها مراكز نفوذ محلية وبقوة السلاح، وهنا تكمن خطورة المشهد : فالموارد التي يفترض أن تتحول إلى خدمات للمواطنين، تُستخدم في تمويل الصراع المسلح وإدامة شبكات الولاء.

رسالة مزدوجة وتداعيات تتجاوز تعز

اغتيال المشهري ليس مجرد جريمة، بل رسالة مزدوجة أن من يحاول سدّ منافذ التسرب المالي سيواجه بالعنف، وأن الإصلاح المالي والإداري في اليمن لم يعد مجرد قرار صعب، بل مغامرة قد تكلّف صاحبها حياته، وهذه الرسالة تعكس أن الفساد أصبح مكوّناَ أصيلاً في معادلة السلطة، وأن أي محاولة للتغيير ستُواجَه بقوة السلاح.
و إن ما جرى في تعز له تداعيات تتجاوز حدود المدينة، فغياب الشفافية في إدارة الإيرادات يفاقم العجز المالي، ويُرسخ الفقر، ويقوّض ثقة المجتمع بمؤسسات الدولة، و الأخطر من كل ما ذكر، أن الاقتصاد الموازي بات عقبة أمام أي تسوية سياسية، لأن المستفيدين منه ذوي مصلحة مباشرة في إستمرار الفوضى التي تمنحهم السيطرة على المال العام.

يبدأ الإصلاح من أن إغتيال إفتهان المشهري يجب أن نقرأة كجرس إنذار، فبناء دولة حقيقية لن يكون ممكناً ما لم يبدأ من : "إصلاح إدارة الإيرادات المحلية وتجفيف منابع ريع الإقتصاد الموازي وتمويل الجباية المسلحة" ، وإلا ، لا يمكن الحديث عن دولة أو سلام دائم بينما تُنهب الموارد أمام أعين الجميع وتُغتال الكفاءات التي تحاول حمايتها.

إفتهان لم تمت ، بل تحولت إلى "رمز للصراع بين إرادة الإصلاح وبطش الفساد"، والرسالة التي تبقى حاضرة بعد رحيلها : "البلد ليس له كيان طالما ظل المال العام رهينة بيد النافذين، خارج القانون وخارج الدولة" .

 باحث إقتصادي

زر الذهاب إلى الأعلى