المعرفة بلا نقد: أصفاد مذهبة ..
المعرفه وحدها لا تصنع الوعي إنما حضور العقل الفاعل والنقدي ليفرز ويراجع ماتم سكبه في ملفاته ومقاربتها مع تطور الواقع وتحولاته.
الوعي ليس ذاكرة بل يقظة. ليس تجميعا بل مراجعة. ليس تكرارا بل انبثاقا جديدا.
ومن لا يغامر بالخروج من مألوفه لا يخرج من غفلته مهما حمل من شهادات أو أحاط من مصطلحات..
إن حضور العقل النقدي يشبه لحظة تنفلت فيها الروح من قيود العادة. لحظة تتعرى فيها الأفكار من أقنعتها فينكشف جوهرها. هناك فقط تبدأ المعرفة أن تتحول إلى وعي.
واعتقد ان الوعي فعل تحرير أما المعرفة بلا نقد فهي حشو وتخدير. وفي زمن تتضاعف فيه المعلومات وتتناقص فيه الجرأة على التفكير يصبح الخروج من المألوف شرطا أخلاقيا وفلسفيا معا.. أن يكون العقل يقظا. فاعلا. يزن ويختبر ويهدم ويبني كي لا تظل المعرفة أصفادا مذهبة بل تتحول إلى أفق جديد تتسع فيه حرية الإنسان و مسؤوليته.
التاريخ نفسه شاهد حي على ما أقول . سقراط، الذي علم الناس في شوارع أثينا أن يسائلوا كل شيء، لم يكن يضيف لهم محفوظات جديدة بل يوقظ فيهم عقلا نقديا لم يألفوه.
ابن رشد، حين واجه التراث لم يكن يكتفي بالشرح بل كان يحاكم الأفكار إلى العقل ويستخرج منها إمكانات جديدة.
غاليليو حين رفع منظاره إلى السماء، لم يكتف بما ورثه من خرائط النجوم بل كسر خريطة العالم القديمة ليبني تصورا جديدا للكون. ومثلهم اليوم علماء ومفكرون ومصلحون يجرؤون على مساءلة ما يقدم لهم بوصفه يقينا في السياسة، في الدين، في العلم، في الأخلاق، فيعيدون للعقل مكانه وكرامته
إن الوعي في الحياة اليومية قد يبدأ بلحظة بسيطة: عامل يرفض التوقيع على عقد مجحف لأنه قرأه بعين فاحصة، مواطن يرفض خطابا دعائيا لأنه يعرف كيف يسائل الأرقام، شاب يقرأ التاريخ فلا يكتفي برواية واحدة بل يبحث عن مصادر أخرى. كل هذه أمثلة صغيرة لكنها تجسيد عملي للوعي باعتباره فعل تحرر لا مجرد كلام جميل.
هكذا وحده يصبح الإنسان سيد معارفه لا عبدها، ويغدو قادرا على أن يحول تراكم المعلومات لديه إلى بصيرة، وأن ينقل الوعي من حيز الكلام إلى حيز الفعل، فلا يبقى سجين الماضي ولا أسير حاضر مستهلك، بل صانع معنى لمستقبل أرحب. لأن الوعي هو القفز خارج السرب، تحطيم دائرة الطاعة العمياء، والانفتاح على أفق أوسع من كل ما حفظناه. عندها فقط تتوقف المعرفة عن كونها حملا على الظهر أو زخرفا على الجدران، وتصير فعلا مؤثرا ..